في أعماق دواخلنا، يستمر الدماغ البشري في إبهارنا بأسراره ومعجزاته. يعد عملية اتخاذ القرار أحد العمليات الرئيسية التي تبرز التعقيد الهائل للدماغ البشري. هذه العملية ليست مجرد رد فعل بسيط للمحفزات الخارجية؛ إنها مزيج معقد من الوعي الحسي، والتقييم الذاتي للخبرات السابقة، والإدراك العاطفي. دعونا نحفر بشكل أعمق لنكشف عن بعض النتائج الحديثة المثيرة التي توضح كيفية عمل الدماغ أثناء صنع القرار.
أولاً، يعتمد الدماغ علينا لتجميع البيانات المستقبلة من حواسنا - سواء كانت بصريّة، سمعيّة، شمية، ذوقية، أو لمسية - قبل البدء بعملية التفكير واتخاذ القرار. يتم تخزين هذه المعلومات في شكل ذاكرة قصيرة المدى ولوقت طويل اعتمادًا على مدى أهميتها بالنسبة لنا كبشر. يُطلق عليها "الأرشيف المعرفي"، وهو عبارة عن مجموعة بيانات شخصية لكل فرد تشكل أساس فهمه للعالم وتوجيه تصرفاته.
ثانيًا، تلعب المشاعر دورًا حيويًا في توجيه قراراتنا. الدراسات الحديثة باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) قد لاحظت أن مناطق مختلفة من الدماغ تستيقظ عند مواجهة المحفزات العاطفية المختلفة. مثلاً، نشاط منطقة الزمن الجبهي الأمامي المرتبط بالأهداف والسلوكيات يعكس التأثير العاطفي المحتمل لقرار محتمل. وهذا ما يفسر سبب شعور الناس بالحاجة الملحة لاتباع غرائزهم عندما يأتي الأمر بشأن الأمور الشخصية والعلاقات الاجتماعية وغيرها مما له صلة بالعاطفة الخاصة بهم.
بالإضافة لذلك، فإن العوامل البيولوجية مثل مستويات الناقلات العصبية لديها تأثير كبير أيضًا. إن توازن هرمون الإندورفين والدوبامين والنورإبينفرين يؤثر بشدة على قدرتنا على تحمل المخاطر والصبر والأداء تحت الضغط خلال جلسات اتخاذ القرار المتعددة الخطوات.
وأخيرًا، يلعب التواصل بين نصف الكرة الأيسر والأيمن لدماغ الإنسان دور حاسم فيما يتعلق بكيفية برمجة أجسادنا لاستقبال معلومات العالم الخارجي وتحليل تلك المعلومات ووضع استراتيجيات للحركة بناء عليها. يعتبر الجانب الأيسر الدماغي موطن الفكر التحليلي بينما يعد الجانب الأيمن المسئول عن القدرات الخلاقة والمعبرة. ويبدو أنه كلما زادت كفاءة الاتصال بينهما ظهرت اتجاهات أكثر تنوعًا وصواباً لدى البشر نحو الاستجابة للأحداث اليومية واتخاذ القرار المناسب بشأنها.
إن دراسة أدوار مختلف المناطق التشريحية في الدماغ هي مجال بحث متطور باستمرار حيث يسعى العلم الحديث دائماً لكشف المزيد والمزيد من طبقات خفايا نظام الاتصالات الأكثر تعقيداً في جسم الإنسان - الجهاز العصبي المركزي الذي يحكم مسارات حياتنا ومستقبله. وبالتالي يمكن القول بأن الرؤى الجديدة المكتسبة حديثًا ستكون ذات قيمة عظيمة لفهم سلوك البشر وسيتيح لها تحسين حياة العديد ممن يعانون من اضطرابات تتصل باتخاذ القرار كالاضطراب الثنائي القطب واضطراب الوسواس القهري بالإضافة لأعمال تدريب المهارات العليا للإبداع والحكمة والحنكة السياسية!