- صاحب المنشور: عبدالناصر البصري
ملخص النقاش:مع التطور المتسارع للعصر الحديث وتأثيره الواضح على جميع جوانب الحياة البشرية, يواجه العالم الإسلامي تحديات فريدة تتعلق بالحفاظ على القيم والأعراف الدينية التقليدية. هذا التوازن الدقيق بين الافتتان بالحياة الحديثة واحترام الثوابت الدينية أصبح من القضايا المركزية التي تشغل الباحثين والمفكرين المسلمين اليوم. فمن جهة، توفر التكنولوجيا والابتكارات العلمية فرصاً عظيمة للتقدم والتطور، ومن الجهة الأخرى، تحتفظ الشريعة الإسلامية بتعاليمها وقواعدها الراسخة والتي تعتبر أساسًا ثابتًا للأخلاق والقيم الاجتماعية.
فهم الثوابت الدينية
الثوابت الدينية هي تلك العناصر الأساسية غير القابلة للمساومة في العقيدة الإسلامية والتي تشمل الاعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى، وخلق الإنسان لأجل عبادة الخالق وحده، والإيمان بالملائكة والكتب السماوية والنبيين واليوم الآخر. هذه الثوابت تظل ثابتة ومستمرة عبر الزمن ولا يمكن تعديلها أو تغييرها بأية حال من الأحوال. فهي تمثل العمود الفقري للإسلام وهي المصدر الرئيسي للحكم الشرعي الذي ينظم حياة المسلم.
تأثير الحداثة وثورته الثقافية والفلسفية
على الجانب الآخر، شهد القرن الماضي ثورة ثقافية وفلسفية أدت إلى تغييرات عميقة في بنية المجتمع وعاداته. حيث قدمت الحداثة نظريات جديدة حول الحرية الفردية، حقوق الإنسان، والديمقراطية، بالإضافة إلى تقدم علمي مذهل في مجالات الطب والصناعة وغيرها الكثير. وهذه العوامل قد أثارت نقاشات مستمرة بشأن مدى توافق هذه الأفكار الجديدة مع تعاليم الدين الإسلامي وما إذا كان هناك مجال لتكييف بعض المفاهيم الدينية ليناسب الواقع الجديد.
التوازن المثالي
في ضوء ذلك، يبدو واضحا أهمية تحقيق توازن صحي بين تقبل مفاهيم الحداثة والاستفادة منها بينما نحافظ أيضا على الهوية الإسلامية الأصيلة. وهذا يتطلب فهماً متعمقا لكل منهما واستخدام المنطق والعقل لفهم كيفية الجمع بينهما. العديد من علماء الدين الإسلامي يشيرون إلى أنه بالإمكان الاستفادة من التحسينات العلمية والتكنولوجية بشرط عدم مخالفتها لتعاليم الشريعة. كما يدعو البعض لبناء مجتمع حديث يحترم قيم مثل العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية -وهي قيم مشتركة بين الإسلام والحضارة الغربية-.
أمثلة عملية
يمكن رؤية نماذج ناجحة لهذا التوازن في الدول ذات الأغلبية المسلمة والتي حققت نجاحا اقتصاديا واجتماعيا رغم أنها تحافظ بقوة على هويتها الدينية. سنغافورة مثالا بارزا؛ فقد قامت الحكومة بصياغة دستور خاص بها يسمى "الدستور المدني"، والذي يستند جزئياً إلى القانون الإسلامي ولكنه أيضاً يعترف بمبدأ الفصل بين السلطات ويضمن حرية الرأي والمعتقد. وبذلك تحقق البلاد نمواً كبيراً بدون تضحية بثوابتها الدينية.
وفي نهاية المطاف، فإن تحقيق هذا التوازن ليس بالأمر السهل ويتطلب جهداً مستمراً لتوعية الناس بفهم دقيق لكلا الجانبين: ضرورة المحافظة على الثوابت الدينية وضرورة إدراك مزايا الحضارة الحديثة أيضاً. إن العمل المشترك بين رجال الدين وأصحاب الاختصاص الاجتماعي والثقافي سيكون له دور كبير في نشر هذه الرسائل الهامة وضمان استمرار الحوار الإيجابي حول الموضوعات الحساسة المتعلقة بالتوازن بين الحداثة والثوابت الدينية في المجتمعات الإسلامية.