في هذا الشأن تعود بي الذاكرة إلى حوار مع الرئيس نميري إبان إحدى الانتفاضات الشعبية في الخرطوم بسبب ارتفاع سعر الخبز. سألني نميري عما هو سبب تلك "الضجة في الشوارع" فأجبته بعفوية: "هذه احتجاجات ضد ارتفاع سعر الرغيف". ردّ عليّ الرئيس بغضب: "إيه يعني الرغيف، ديل ما بعرفوا القدمناه
ليهم، حتى المويه وصلناها لكردفان". قلت له: "الشعوب ليست مؤرخاً، فإنجازات الأمس لا تبرر تقصير اليوم". قال لي: "تقصد إيه؟" فأخذت أروي له قصة عن السير ونستون تشرشل الذي هُزم في أول انتخابات برلمانية بعد الحرب العالمية الثانية. فرغم انتصاره في الحرب وإنقاذه بلاده من الخطر النازي
الذي كان يحدق بها، عاقب البريطانيون ونستون تشرشل (بدلاً من مكافأته) بإسقاطه في الانتخابات في عام ١٩٤٥م، ولم تكن عقوبة الزعيم المحرر إلا لفشله في توفير البيض واللبن للمواطن البريطاني في مائدة إفطاره. ماذا كان تعليق تشرشل؟ قال في مجلس العموم:
"الديمقراطية هي أسوأ نظام للحكم
بإستثناء كل الأنظمة التي جربت من وقت لآخر" (مجلس العموم البريطاني ١١ نوفمبر ١٩٤٧).
ماذا كان تعليق نميري على ما رويت؟ قال نميري: "ياخ روح كده ولا كده، دي حاجات بتعرفها انت بس". هذا ما عنيته بالحس التاريخي: فالديمقراطية التي أخرجت تشرشل من الحكم في ١٩٤٥م بإرادة الناس، هي نفسها
التي أعادته إليه في عام ١٩٥١م باختيار الشعب ورضاه إلى أن تقاعد بمحض إرادته في ١٩٥٥م.
كما أن على السياسي الذي يطمح في حكم الناس وبإرادتهم أن يدرك أن ممارسة تلك الإرادة رهينة بمعايير قد تكون تافهة في رأي السياسي، ولكنها حيوية في رأي الناخب. ولعل الوعي بتلك المعايير هو الذي دفع