تعجبني عينيّة أبي ذؤيب الهُذلي في رثاء أبنائه كثيرًا، لكنها تثير عجبي أيضًا، فرغم إنشائها في زمن إسلامي إلا أني لا أعرف في سائر المدوّنة العربية قصيدةً مثلها تصوّر عالمًا ماديًا قائمًا على الفوضى والصدفة، حتى إننا لنقرأ الثلاثة والستين بيتًا كاملة لا نجد ذكرًا لرَوح الله. https://t.co/mQawkFe07L
مُنيت القصيدة -رغم ذيوعها- برأي نقدي قويّ أفسد تلقّيها بعده، أعني رأي الخليفة المنصور حين رُزئ بابنه جعفر فطلب من ينشده إياها. يُقال إنه طلب إعادة المصراع: والدهر ليس بمعتبٍ من يجزعُ فوق المائة مرة، لكن حين وصل إلى الجزء الذي يصف الحُمُر الوحشية ضجر وقال: سلا أبو ذؤيب.
ولكي تلمس ما أُتيح لهذا الرأي من ذيوعٍ وغَلَبة، ارجع إلى كتاب المرشد للبروفيسور عبد الله الطيب -وهو هو فهمًا وذوقًا واستقلالًا بالرأي- تجده حين تناول العينية تابع الرأي المحتفي بشطرها الأول، المتضجّر من شطرها الثاني، بعد أن نسبه خطأً إلى عمر بن الخطاب، وهو للمنصور كما رأينا.
ثم حين أورد البيت القائل: والنفسُ راغبةٌ إذا رغّبتها * وإذا تُردّ إلى قليلٍ تقنعُ، أنكره، وتساءل عن مناسبته، ولو تدبّر مليًا أدرك أنّ وصف الحُمر والكلاب والثيران والفرسان داخلٌ ضمن ترغيب النفس وحملها على ما تكره، وأنّ ما يلي البيت تصبرٌ صرف. وللجاحظ كلمة مشهورة في كتابه الحيوان =
يشرح فيها كيف أنّ القصائد التي تصوّر صراعًا بين بقر الوحش والكلاب تختلف في مآلها حسب غرض الشاعر، فإذا كان مدحًا تغلّبت البقرة، وإذا كان رثاءً تغلّبت الكلاب، ولعلي لا أذهب بعيدًا لو جزمت أنه كتب هذا التفصيل وهو يستحضر قصيدتنا هذه مثالًا على الرثاء، ومعلقة النابغة مثالًا على المدح.