وأظلمت المدينة
وها هو النبي ﷺ يَحزِم أمتعته، ويتوجه في ليلة باردة الجدران إلى طُرقات المدينة ليسحب الأنوار التي نثَرها في جنَبات تلك الدروب العتيقة، ويودِعها حقيبته ويغادر.
نحن على موعد مع شتاء الفجيعة، وزمهرير الفقد، و موسم الدموع...
مات الرجل النبيل..
وماتت معه ابتسامة كانت قد تبرعمت في قلب عمر، وأغمضت الهناءة عيَنْيها في نفس أبي ذَر، وانسحبت ألوان الحياة من عيني أبي عُبَيدة.
يتجهَّز مُعاذ بن جبل قبل أشهر من موت النبي المغادرة المدينة، فيمشي معه النبي ليودعه، ونسائم المدينة تخلُق
أريجًا لاتُنقنه إلا المدينة.
فيهمِس النبي ﷺ لحبيبه الذي قال له قبل مدَّة: «واللهِ إني أُحبك يا مُعاذ»..
يَهِمس له بسر مُؤلمٍ: «يا مُعاذُ، إنَّكَ عسى ألا تَلْقاني بعدَ عامی هذا". تتوقف نبضات مُعاذ، وكل شيء من حوله يصطبغ
بنكهة النواح.. .
ثم يكمل النبي همسه: «ولعلَّك أن تمر بمسجدي هذا.. وقبري» فيبكي مُعاذ.
كم هي قاصمة للظهر كلمة «وقبري»، كم هي مُفجعة، كم هي مُحرِقة، وكيف استطاعت قوَّة مُعاذ ألا تهوي، وتعلن الانهزام في تلك اللحظة الاستثنائية؟ ما قيمة طريق العودة إذا كان الحبيب قد رحل؟
ولماذا معاناة الرحلة، إذا كانت الشمس قد غربت؟ والابتسامة قد توارت؟ (وإني أحب یا مُعاذ)، قد وُسّدت قبرها؟
وفي عرفات، وقف النبي ﷺ أمام مشروعه الناجح، وقف أمام أكثر من مئة ألف إنسان مسلم، كانوا جميعهم قبل عشرين
سنة يسجدون لهبل، ويعبدون العزى، ويعظمون مناة الثالثة الأخرى،