كانت البلاغة هي موافقة اللفظ المعنى على أتم وجه ، حتى لا تجد للمعنى أقوى من ذلك اللفظ والتركيب .
وهذا هو واقع ميزان البلاغة في شعر الجاهلية وصدر الإسلام ، وهي أصح نظرية للإعجاز ، التي قررها الجرجاني .
وأحسن من يمثل هذه الفترة من الشعراء: امرؤ القيس في دقة تركيبه، والنابغة الذبياني في جزالة ألفاظه، وزهير بن أبي سلمى في جمال معانيه.
وأحسن ما يمثلها مطلقا : القرآن الكريم .
ثم أصبح بالتدريج يميل الذوق إلى استحسان المجازات الجديدة والتشبيهات المستحدثة ، ونحوها من مسائل علم البيان.
وهذا الميل بدأ في العصر الأموي ، وبقدر الميل إليه خف قليلا الاعتناء بالوجه السابق للبلاغة .
ثم في العصر العباسي الأول طرأ اختلاف في الاهتمام ، بدءا من أبي تمام : فبدأ الميل لصالح المعاني الدقيقة ، والحكمة الفلسفية ، والتي بلغت قمتها عند المتنبي .
وكانت هذه هي البلاغة في ذلك الزمن .
ثم بدأ الملل من العمق في المعاني ، والتوجه لجمال اللفظ وحسن الجرس والتلذذ بصوت الكلام وإيقاعه في الآذان . فظهرت العناية بالمحسنات البديعية ، بدءا بالمقامات ، وانتهاء بالشعر .
وهذا ما ظهر في أواخر العصر العباسي .
وكان هذا هو الذوق العام والمعيار للبلاغة .
ثم بدأ ضعف اللغة يزداد ، وبدأ الجهل يتفشى ، والذوق يتردى حتى وصل الشعر العربي درجة الغياب والهبوط عن ذائقة الناس ، فصار كالطعام بلا ملح ولا توابل : فلا هو ماء فيروي ، ولا هو هواء فُيتنسم ، ولا هو طعام له طعم !