لقد كانت شخصية صلاح الدين الأيوبي إحدى أكثر الشخصيات شهرة وإلهاماً خلال تاريخ المسلمين. ولد هذا القائد الفذّ في العام الخامس والثلاثين وخمسمائة هجرياً في مدينة تكريت الواقعة بالعراق الحديث. تربى على يد والدٍ محب للعلم والفضيلة مما جعله يتميز بفطنته المبكرة واجتهاده المثابر. حفظ كتاب الله الكريم وهو لم يبلغ سن البلوغ، كما برز شعره ونظم الشعر بإتقان كبير. ولكن ما التفوق فيه حقاً فهو الشجاعة والجدارة بالحرب، حتى بات اسمه رمزاً للإقدام والإخلاص في الدفاع عن العقيدة الإسلامية.
تأتي معركة حطين بمكانتها الخاصة ضمن سجل الانتصارات العظيمة تحت قيادة صلاح الدين الأيوبي والتي جرت أحداثها في السنة الثمانين ومائة واربعمائة هجرية الموافقة لعام ١١٨٧ ميلادية. تعتبر تلك المعركة نقطة تحول حاسمة في الحرب الصليبية إذ أنهت هيمنة الأوروبيين المسيحيين على جزء كبير من الشرق الأوسط لفترة طويلة نسبياً وبداية النهاية الرسمية لهم هناك تماما.
تعتبر معركة حطين أيضاً إيذانا باستعادة ثقة الشعوب الإسلامية بوحدتها وقوتها الجماعية وكذلك ارتفاع مكانة صلاح الدين الأيوبي كرمز للحكمة والتخطيط العسكري الاستراتيجي بالإضافة لدوره السياسي المحوري آنذاك. علاوة على هذه الآثار القصيرة المدى، فقد تركت المعركة تأثيراً دائماً عبر رفع مستوى الوعي الجغرافي لدى سكان المنطقة خاصة فيما يتعلق بدور مصر كمركز حيوي للتواصل داخل المجتمع الإسلامي وأهمية موقع فلسطين كنقطة عبور مهمة بين بلاد الشام ومصر التاريخيان.
أما بالنسبة لتجارب التعليم المبكر للقائد الشهير، فهي تشكل خلفية غنية بحكايات نجاحاته المستقبلية. لقد عاش طفولة مليئة بالقراءة والمعرفة حيث تعلم علوم مختلفة تحت إشراف أساتذة بارزين مثل المؤرخ أحمد الأصبهاني والخطيب علي الحريري وغيرهما ممن ساهموا جميعا بترسيخ أساس متين لعقيدة صلاح الدين وفهمه العميق للأوضاع السياسية والأحوال الاجتماعية المحيطة به والذي أدى لاحقا لتحقيق مشاريعه الوطنية الطموحة.
بعد نهاية حطين مباشرة بدأ عصر جديد من النجاحات العملية للسيد القائد. فعلى مدى سنوات عديدة قام بشن حملات عسكرية واسعة النطاق واستعاد معظم المناطق الساحلية الشمالية الغربية بما فيها المدن الرئيسية كالقدس وصفد وتبريا وحتى ميناء طابريا الكبير بالإضافة لاستعراض قوات كبيرة مضغوطة داخل حصون ساحلية أخرى أصغر حجماً كتلك الموجودة بكلٍمن دربسك وحجر شغلين والقصير أيضا.
لكن ربما يبقى حدثٌ واحدٌ فقط فوق باقي إنجازاته الأخرى وهو إنتزاع القدس نفسها مرة آخرى تحت حكم الإمبراطورية الإسلامية بعد عقود من الاحتلال الاجنبي المرير لها وللنذر الكثير منها كذلك حين فرضوه قبل زحف جنوده مجددآ نحو المدينة المقدسة جاء لحظة الفرح الأكبر عندما صلى السلطان نفسه أول خطبت جمعة منذ دخلت القوات البيزنطينية أرض البلدة الحساسة ذات القدر الكبير لدى الجميع . وليس أقل من كون رحيل اللاجئين العرب محتجزين سابقًا علامة فارقة أخرى دفعت برجال دين ومؤرخون ليطلقوا عليه "مصطفى" نسبة لرغبات الرب بالإطلاق لهؤلاء المسجونين السابقين . ولم تنته هنا ترجيحاته فأضاف كمان لوحده نهضة شاملة للمدن المختطفة حديثا وهي بيروت وصيدا ويافا وعسقلان وجبيل أيضًا أظهر خلالها قدرته الهائلة بضم مناطق جديدة إليه بينما يكفل بقائهم مستقرا اقتصاديًا وثقافيًا مستقرًا ومتماسكا اجتماعيًّا بشكل ملحوظ للغاية !
وفي ظل كل ذلك ، اجتمع الشعب العربي حول قائدهم الموحد الذي اقنع عالمتهم بأنه الرجل المناسب لبناء دولة عظيمة تقوم على العدالة والكرامة الإنسانية وحماية حقوق أهل الأرض الأصلية أمام تهديد غزو ثقافات ومعتقدات أجنبية مغتصبة تدعى أنها تمتلك شرعية دينية أعلى وتمارس أعمال إبادة جماعية لأهل البلد الأصلاء بسبب افتتانهم بخيار معتقد راسخ لديهم خلاف طبيعي يحاول البعض فرضه عليهم بقوة تقليدية غير قابلة للتغيير نظرا لشروط حياة الناس القاسية وقت ذاك والتي أثرت بلا شكعلى وجه النظر حول ماهيتها وهويتها الثقافية المتعارف عليها سابقا .
وبالتالي، فإن قصة صلاح الدين الأيوبي ليست مجرد رواية عن رجل واحد، بل هي شاهد حي على قوة الروح الجمعية عند مواجهة الظروف الصعبة وكيف يمكن لهذه الوحدة أن تجلب النصر والاستقرار الاجتماعي والثقافي والجغرافي للدول المضطربة. إنه درس مستمر يحتذى به لكل من يسعى إلى تحقيق السلام والتنمية داخل مجتمعاته الخاصة.