في ظل تطور المجتمع وتغير نظمه السياسية عبر التاريخ، تصاعد الحاجة لإشراك الأفراد في اتخاذ القرارات التي تؤثر مباشرة في حياتهم اليومية. وقد جاء هذا الاهتمام كاستجابة لتوجهات جديدة نحو العدالة الاجتماعية والشعور بالانتماء والمشاركة الفعالة داخل المجتمع. من هنا يأتي دور "الشورى"، وهو نهج حكم قائم بذاته اكتسب شهرة خاصة ضمن السياقات الثقافية والفكرية المتنوعة، ولكنه شهد أشكال مختلفة ومتعددة التنفيذ حسب البيئات الاجتماعية والثقافية وظروف التحول السياسي لكل مجتمع.
ومن منظور تاريخي عميق، يُعتبر النظام التشاوري جزءاً أصيلاً من الوثائق القانونية الأولى للإسلام منذ أيام الخلفاء الراشدين. يؤكد القرآن الكريم والسنة المطهرة على قيمة المشاورة الجيدة والتشاركية في صنع السياسات العامة والحكومية. الآية الكريمة في سورة آل عمران والتي تنص "وشاورهم في الأمر"، بالإضافة إلى أحاديث نبوية عديدة تشير بوضوح إلى مكانتها وتميزها كممارسة حاكمة مستمرة.
وفقا لهذه المقاربة الإسلامية للشورى، فإن عملية اتخاذ القرار ليست مجرد نتيجة لاستفتاء عام عشوائي، وإنما هي نتاج لفريق مختار جيداً قادر على تقديم رؤى وصياغة حلول مبتكرة تتوافق مع المعايير الأخلاقية والقانونية السائدة في تلك الفترة الزمنية الخاصة. لذلك، فإن المؤهلات الرئيسية للأفراد الذين يدخلون ضمن دائرة التفكير الاستراتيجي تتمثل في توفر لديهم القدرة العلمية والمعرفية الواسعة، فضلا عن قدرتهم الفائقة على الحكم المنصف والعادل. إنها مهارة دقيقة للغاية وتفترض درجة عالية جداً من المرونة العقائدية والقدرة على قبول وجهات النظر البديلة واحترامها بدلاً من فرض وجهة نظر فردية بقوة الغالب على المغلوب.
وفي التطبيق المستمر للنظام المؤسسي للشورى خلال عهد الصحابة الكرام وبعد وفاة الرسول محمد -صلوات الله عليه وعلى آله وسلم- ظهر بوضوح مدى نجاعتها وقدرتها على إدارة شؤون البلاد بحكمة وجودة وكفاءة عالية غير قابلة للمغالطة أو التشكيك فيها. ومن اللافت للنظر أيضاً كيف أدت هذه الممارسات المبنية على أساس تشاوري شامل وصحيح الى خلق نوع جديد من الحكومات المنتخبة بصورة ديمقراطية رغم الاختلاف النوعي الكبير بين مفاهيم الديمقراطية التقليدية الحديثة وعناصرها الأساسية وبين منظومة الشورى الخاصة بالعالم الإسلامي القديم والذي ظل محافظاً بشدةعلى إيمانه وثباته تجاه مرجعيته الروحية والإلهية المقدسة.
وتتجلى أهمية المشورة الجماعية حين تقوم بإيجاد جسور اتصال ثابتة تربط القادة الرسميين بالسكان العامين تحت سلطتهم مما يعزز شعور السكان بالألفة والأخد بالأخذ عند النظر بموضوعات ذات علاقة بهم مباشرة وكذلك عندما يساهم تجمع المهنيين ذوي الخبرة بخبرتهم وشهاداتهم الشخصية أثناء بحث قضية حرجة مطروحة أمام الحكومة مما قد يفيد كثيرا باتخاذ قرار مصيري ذا تأثير كبير وطويل المدى يستحق التأمل والتدقيق قبل التدبير فيه وإقراره رسميا.
وهكذا، فإن خاصية الثورة التجدیدیة والتغيير الاجتماعي المرتبطa بالتعاون والتشارک بین مختلف طبقات الجمهور تبرز مجددًا باعتبارھا احدى الأدوار المركزية لنظام التشاورات الاسلامی المصاحب للقرآن الكريم والسیر الذاتوی للسید محمد بن عبد الله صلىاللهعلیه وآله.