يُعدّ إدريس الثاني أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في تاريخ المغرب القديم، حيث قام بتأسيس واحدة من أهم المدن في البلاد وهي مدينة فاس. ولد إدريس الثاني حوالي العام 766 ميلاديًا، وهو ينحدر من عائلة ذات جذور عميقة في العالم الإسلامي، فقد كان ابن إدريس الأكبر وابن عبد الله الكبير، حفيد الخليفة الثالث للإسلام علي بن أبي طالب.
وصل إدريس الثاني إلى المغرب العربي في النصف الأخير من القرن الثامن الميلادي، بعد رحلة شاقة بدأها من بلده الأصل طنجة ثم عبر الصحراء الأفريقية الشرقية قبل الوصول إلى شمال أفريقيا. اختار موقع فاس لتكون مركزاً لوجوده بسبب عدة عوامل استراتيجية مهمة. أولها الموقع المركزي بالنسبة للطرق التجارية الرئيسية داخل وخارج المنطقة العربية الإسلامية آنذاك. ثاني هذه العوامل كانت توفر مياه جوفية وفيرة حول المدينة، والتي أبقت عليها مصدر حياة رئيسي خلال فترات التقلب المناخي والجفاف المستمر تقريبًا. بالإضافة لذلك فإن المدينة الجديدة ستكون تحت سيطرة قبيلة بربرية محلية عديدة الولاء لإدريس، مما يعطي حكمه دعماً سكانيًا وثابتاً.
بدأ العمل في إنشاء مدينة فاس نحو العام 804 ميلاديًا، ومنذ لحظة انطلاق المشروع بدأت فاس تصبح جوهرة ثقافية وحضرية فريدة. اهتم إدريس الثاني شخصياً بكل تفاصيل البناء والديكور للمدينة، بما فيها المساجد والمدارس والمعاهد العلمية والفنية المتخصصة. أصبح مسجد "القرويين"، المؤسس سنة 859 ميلادية، واحدًا من أشهر المعالم الدينية والثقافية ليس فقط لفاس ولكن أيضًا بالمغرب والعالم الإسلامي أجمع.
أصبحت مدينة فاس العاصمة السياسية للعصر الادريسي (808-927ميلادياً). شهدت فترة ازدهار غير مسبوقة خلال تلك الفترة الزمنية القصيرة نسبياً. لكن رغم موته المبكر نسبيًا سنة 828ميلادية, ترك خلفه تراثاً تنوع ثقافته وتميز عمرانه وظل أساس نهضة حضارية كبيرة عبر القرون التالية.
أما جغرافيا ومعيشياً، تكيف سكان فاس مع بيئة جبلية وزراعية غنية بمصادر المياه المختلفة وأنواع التربة المتفاوتة تسمح بإنتاج مواد غذائية متنوعة ورعاية المواشي بطريقة مستقرة حتى أيامنا هذه. يتميز المناخ بفصول شديدة التطرف فيما يتعلق بدرجة الحرارة وكمية الأمطار السنوية المنخفضة جدا مقارنة بمحيطاتها الأوروبي والبحر المتوسطي المباشرين بها.
بشكل عام، يمكن اعتبار قصة تكوين مدينة فاس واحداً من نماذج الرؤى التخطيطية الناجحة للتطور العمراني والحضاري. حققت رؤية الملك ادريس الثانية هدفها الرئيسي وهو خلق قاعدة مالية واجتماعية مستقرة مدعومة بقوة روحانية ودينية قوية باقية مازلت تخطف انتباه الزائرين والتاريخيون المهتمين بتاريخ الانسان الغني والشامل للأرض والسماء كذلك!