بين دفتَيْ قصة سيدنا يوسف عليه السلام، تنشرح قلوب المؤمنين بتلك اللحظات الحاسمة التي شهدتها مصر القديمة. وفي ذلك المشهد المبارك، بعد طول انتظار وتعذيب النفس بسبب الفراق الأليم بين أب وابنه بارٍّ كريم، جاء الأمر الرباني عبر رسول الرحمة سيدنا يوسف: «ادخُلوا مصر إن شاء الله آمنين». إنها دعوة تربوية سامية تحمل في طياتها معاني عميقة من الأمن النفسي والجسدي، والتي سيحللها المفسرون تباعاً فيما يلي.
وفقاً لتفسير العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، يعد هذا النص جزءاً أساسياً من الترتيل الرشيق لسورة يوسف (12:66). إذ يُروى أن سيدنا يعقوب وفاطمة خالة النبي الكريم -بعد تحقيق رؤيته التي بشر بها منذ زمن طويل- توجها نحو أرض النيل برفقة أولاده المنتظرين. وعند لقائهما العزيز المصري يوسف، تغمر نفسه بالفخر والسعادة فرسم ابتسامة الرضا عليهم قائلاً بحزم وهم يأخذون أماكن سكناهم بعيدا عن مخاطر الأرض المضنية: أدخلوا مصر يا أهل الثقة والإيمان؛ فإن رضائي وشفاعتي ستحميكم من كل سوء محتمل! وذلك يشمل تهدئة حواسهم مما قد يقلقه من مشاهد حروب وظلم سابق ظلت عالقة بالأذهان تلك السنوات المنصرمة. وكان واضحا أيضا حرصه الدائم على رفاهتهم داخل حدود ملكه المستقر والمحمي اجتماعيا.
ويرى علماء مثل أبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي أنها كانت بادرة كريمة منه لما تضمره روح نبينا يوسف تجاه ذويه وكيف شكل موضع ثقتهم فيه مصدر سلام داخلهم. ويمكن القراءة الأخرى لهذه العبارة وهي كونها نوعا من الدعاء بأن يحفظهم ويقدر وجودهم بإذن الله تعالى بشكل دائم وآمن—كما ذكر البعض. بالإضافة لذلك، يشير الرواة التاريخيون بأنه ليس فقط الزائر الأخير ولكن أيضًا الكثير ممن اعتبره زعيم السياسة آنذاك قد اصطف صفوف البلاد لإستقبال سيدنا يعقوب واسرته بمراسيم رسمية تشبه الاحتفالات الملكية.
ومن جهة أخرى، يؤكد تفسير آخر حول مدلول العنوان الرئيسي للجملة والذي يمكن فهمه كنعت شامل لعيش حالة الاستقرار الجديد ضمن المجتمع المصري النبيل يوم ذاك. ولا شك بأنه رغم حجم مجموعتهم المتنوع نسبيا وما يقارب التسعين شخص حسب بعض التفاصيل المكتوبة لدى مؤرخين كابن جرير الطبري وغيره, لم يكن هنالك سببٌ للحذر منهم نظرا لحسن الخلق والعفة والحكمة الموجودة لديهم أصلا. ومن هنا تأتي رسائل مهمّة جدًا بشأن أهمية حسن الظن والتراحم الإنساني المبني علي العلاقات المفتوحة والصادقة مهما اخلف الدهر.
وفي النهاية وبعد مسيرة طويلة مليئة بالتحديات ، يأتي نهاية العمر بكلمة رقيقة مليئة بالعشق الإلهي والمعنى الوجداني العميق: ادخلوا مصر.. وانعموا بالحياة تحت ظل نور الحق وانعم برضا الرحمن عز وجل...