على مدى قرون عديدة، شهد العالم تحولات عميقة أثرت بشكل كبير على الطريقة التي نظر فيها الناس إلى الوجود والمعرفة والعلاقة مع الطبيعة والإنسان الآخر. هذه التحولات لم تأتِ عبثاً؛ بل كانت نتيجة لتراكمات تاريخية واجتماعية وفكرية متعددة. يُطلق على هذا العصر "الفترة الفلسفية الحديثة"، والذي يتميز بتغيرات هائلة في النظرة للعالم وطريقة التعامل معه. هنا سنستعرض بعض المحركات الرئيسة لهذه الثورة المعرفية.
1. الإصلاح الديني والثورات الثقافية: يعد القرن السادس عشر نقطة انطلاق حاسمة، إذ شهد نهاية الهيمنة الروحية للكنيسة الكاثوليكية واستبدالها بنظام إيماني أكثر حرية وتنوعا. ساهمت حركة الإصلاح البروتستانتية في تشجيع التفكير النقدي والتساؤل حول السلطة التقليدية للأدب المقدس والكهنوت المسيحي. بالإضافة إلى ذلك، فقد أدت الحروب الدينية المتلاحقة خلال تلك الفترة إلى تسارع عملية تحديث المجتمع الأوروبي نحو مجتمع علماني أكثر مدنية وعقلانية.
2. اكتشاف أمريكا والاستعمار الأوروبي: كان لوصول المستكشفين إلى الأمريكتين تأثير غير مسبوق على نظرة الإنسان لنفسه وظروف وجوده. لقد كشفت الرحلات البحرية الجريئة للملاحين مثل كريستوفر كولومبوس وكزافييه كورونادو وغيرهما عوالم جديدة غنية بالموارد المختلفة عن أوروبا، مما دفع التجار إلى توسيع نطاق نشاطاتهم الاقتصادية العالمية. لكن الجانب السلبي لهذا النشاط الاستعماري تتمثل في مواجهة السكان الأصليين الذين كانوا يعيشون بالفعل هناك، الأمر الذي أسفر عن اضطهاد وحروب مستمرة أبرزت القضايا الأخلاقية المرتبطة بمسائل حقوق الشعوب الأصلية واحترام البيئة الطبيعية.
3. نهضة العلم التجريب: شجع اهتمام العديد من العلماء والفلاسفة بالبحث العملي والسجلات الطبيعية - مثل أعمال غاليليو غاليلي وأورتيلوس رومر وجون هوبز - على تطوير طريقة منطقية تقوم على مراقبة الواقع ومحاولة فهم الظواهر الفيزيائية والكيميائية من خلال التجربة والملاحظة بدلاً من الاعتماد فقط على النصوص القديمة والحكمة التقليدية. وقد مهد هذا الطريق أمام ولادة علوم طبيعية جديدة مثل الفلك والأرصاد الجوية والفيزياء، والتي ستكون لها تداعيات كبيرة فيما بعد على مختلف مجالات المعرفة البشرية بما فيها الفلسفة نفسها.
4. إعادة قراءة تراث اليونان وروما: لعب تقارب المثقفين الأوروبيين مع فلسفات أفلاطون وأرسطو وسقراط دورًا رئيسيًا أيضًا في إحداث تغيير جذري داخل النظام العقلي للمفكرين آنذاك. فعلى الرغم من كونها قديمة نسبياً إلا أنها حملت بذور الأفكار الليبرالية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي التي تناسب تمامًا طموحات الطبقات البرجوازية الناشئة آنذاك والتي تتوق للتخلص من سلطة طبقات الفرسان والنبل القديمتين لصالح نظام جديد مبني على الملكية الخاصة والحرية الشخصية والحقوق المدنية. وبالتالي فإن تعمق الدراسات الإنسانية وإعادة النظر بطرق تفكير الماضي اقترنت باحتضان فكرة الانعتاق الفكري والمشاركة السياسية الواسعة لدى الشعب عامة وليس النخبة وحدها كما كان معمولٌ به سابقاً.
وفي النهاية يمكن القول إن هذه العوامل وغيرها كثير شكلت بيئتها المناسبة لتولد مفهوم "العقل" كمصدر رئيس للحقيقة والقانون فوق كل قوانين ما قبلها؛ وهو أمر فتح آفاق واسعة لاستكشاف الذات ومعارف جديدة واكتشاف قدر الهائل لعظمة الخالق سبحانه وتعالى وثرائها بلا حدود!