كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر"، للمؤرخ الإسلامي ابن خلدون، يعتبر واحدًا من أهم الأعمال التاريخية والفكرية التي تركها الأدب العربي والإسلامي. هذا الكتاب العملاق، الذي يشكل أكثر من ألف صفحة في النسخة الأصلية، هو عبارة عن مزيج فريد بين التأريخ السياسي والتاريخ الاجتماعي، بالإضافة إلى النظرية الاجتماعية والثقافية.
في الجزء الأول من الكتاب، المعروف باسم "العبر"، يستعرض ابن خلدون تاريخ الدول الإسلامية بشكل مفصل، بدءاً من الخلافة الراشدة حتى عصره. هنا نرى منهجه الفريد في تحليل الأحداث التاريخية واستخراج الدروس المستفادة منها ("عبر"). يعطي ابن خلدون اهتمامًا خاصًا بفترة الدولة الأموية والدولة العباسية، ويقدم تفسيرات عميقة حول عوامل الصعود والانهيار لهذه الإمبراطوريات القوية. كما يناقش أيضًا دور الدين والمذهب السياسي في تشكيل مسار هذه الحضارات.
أما الجزء الثاني من العمل، وهو ما يعرف بـ"ديوان المبتدأ والخبر"، فهو محاولة لتقديم رؤية شاملة ومتوازنة عن جميع جوانب الثقافة العربية الإسلامية. يغطي هذا القسم مجموعة واسعة من المواضيع بما في ذلك اللغة والأدب والشعر والسيرة الذاتية للأعلام البارزين. يجمع ابن خلدون بين القدرة التحليلية للباحث الأكاديمي والحس الشعبي للإنسان المنتبه للتراث الإنساني.
من الناحية النقدية، يعد كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر" عملًا ثوريًّا في مجال التأريخ. فقد غير الطريقة التقليدية للتقييم التاريخي بإدخاله لمفهوم "الدورة العمرانية للدول". وفقا لهذه النظرية، كل دولة تمر بمراحل مختلفة - الاستقلال، الازدهار، الانحدار ثم الموت - قبل أن تولد مرة أخرى ككيان جديد تحت قيادة جديد. هذا الرأي الثاقب قد أثر بشكل كبير على الدراسات التاريخية لاحقا.
بالإضافة لذلك، يحتوي الكتاب على العديد من الأفكار المتقدمة لأوانه والتي تعكس فهم ابن خلدون العميق للحياة البشرية وتفاعلات المجتمعات مع البيئة السياسية والاقتصادية والثقافية. إنه ليس مجرد مصدر تاريخي، ولكنه أيضا موسوعة معرفية غنية بالمعلومات والقيمة الفلسفية والاجتماعية.
في النهاية، يبقى كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر" مرجعًا أساسيًا لكل باحث في مجالات مثل الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والتاريخ المقارن والعلاقات الدولية. فهو يقدم منظورًا فريداً ومثيرًا للتفكير حول طبيعة الحكم والاستقرار الاجتماعي والتغيير الثقافي عبر الزمن.