تعد دراسة الأصول القديمة للحضارة البشرية جزءاً أساسياً من فهم مسار تطور المجتمعات والإنسان نفسه. إن البحث عن أولى هذه الحضارات يفتح نوافذ معرفية واسعة نحو تاريخ الإنسان وتفاعلاته البيئية والثقافية. وعلى الرغم من وجود خلاف بين المؤرخين حول تحديد "أول" حضارة بشكل قاطع بسبب الاختلاف الواسع في التعريفات والمناهج العلمية، إلا أنه يمكن تتبع بعض الأمثلة البارزة التي تعتبر مقدمة لما نعرفه اليوم بالحضارات المتقدمة.
تُعتبر حضارة سومر واحدةً من أبرز المرشحين لتكون إحدى أقدم الحضارات المعروفة. ظهرت هذه الحضارة حوالي العام 4500 قبل الميلاد في منطقة وادي الرافدين جنوبي العراق الحديث، وهي موطن لأحد أولى المدن المستقلة وهو مدينة أوروك الشهيرة. ساهم السومريون بتأسيس العديد من العلوم والتقاليد الثقافية مثل الأدب والفلسفة والرياضيات والحساب الدقيق باستخدام نظام كتابة بالعلامات المسندية. كما تركوا بصمة واضحة في مجال الهندسة مع بناء القنوات وأنظمة الري واستخدام الطوب المصهور لبناء مباني ضخمة كمعبد إيزدوارا في لارسا ومعبد زيوجيرا في اور.
ومن ناحية أخرى، يُنظر إلى مصر الفرعونية كنموذج آخر لحضارة قديمة متميزة. يعود ظهورها إلى بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد تقريباً، وقد برزت خلال فترة ما يسمى بالعصر الفرعوني المبكر والتي شهدت توحيد مملكتهم تحت حكم الملك نارمر (أو مينيس). تتمثل أهم انجازات المصري القديم فيما يعرف بالممالك القديمة والوسطى والحديثة؛ حيث كانت دولة مركزية قوية ذات هيكل اجتماعي واضح ومكتبة ثقافية غنية بالأدب والشعر والنحت والفنون الجميلة الأخرى بالإضافة للعمارة الضخمة للمقابر والمعابد والمعبد الأكبر لكائن الشمس رع.
في آسيا الغربية أيضًا، يوجد دليل على وجود مجتمعات زراعية حديثة منذ عام 7000 قبل الميلاد مما يشير ضمنياً إلى بدء نشوء حضارية بلاد الشام وحوض البحر الأبيض المتوسط الشرقي والتي بلغ ذروتها بحقبنة الشرق الأدنى القديم. حققت تلك الحضارات تقدماً ملحوظاً في مجالات مختلفة بما فيها الطباعة والأعمال الفضية النثرية والسجاد الحريري وغيرها الكثير.
وفي شرق آسيا، يعد سكان الصين المنغوليون واحداً من أوائل الناس الذين طوروا قرى دائمة وصنعوا الآلات الزراعية كالجدول اليدوي والقوس والصولجان وبنوا الجدران الدفاعية ضد المغول وانتشروا غرباً حتى الهلال الخصيب ودخلوا مرحلة الصراع السياسي والديني والعسكري الأولى لهم. أما اليابان فقد مرّت بثلاث مراحل رئيسية تسمى عصر اليوغا وتميز هذا العصر بنشوء النظام الإقطاعي وانتشار عبادة البوذا وفن فن الشاي والصناعة التقليدية التقليدية لهذه الجزيرة الصغيرة وعرفت باسم أرض الشمس المشرقة لاحقا .
بشكل عام، تُظهر كل هذه الأمثلة تنوعاً كبيرًا في طرق الحياة بين مختلف المناطق العالمية وكيف تطورت تدريجيًا لتصل إلى شكل مشابه أكثر فأكثر لعالمنا المعاصر رغم اختلاف عصورها وزمانها وظروف بيئاتها الطبيعية والجغرافية الخاصة بكل منها. إنه تعبير عجيب عن القدرة البشرية والاستمرارية المعرفية التي استمرت منذ آلاف الأعوام وساهمت بشكل مباشر في تشكيل هويتنا اليوم وتاريخنا المشترك كمجموعة بشرية موحدة ومترابطة بشكل عميق للغاية.