تُعتبر القيم العمود الفقري للحضارات عبر التاريخ، فهي الرابط الحيوي الذي يجمع بين التفكير الإنساني والإنتاج الثقافي والمكتسبات العلمية. تُعرّف الحضارة بأنها نظام متكامل من المفاهيم العقائدية والقانونية والأخلاقية التي توجه تصرفات وأنشطة المجتمعات البشرية. أما القيم، فتكون محركاً رئيسياً لهذه الأفعال، وهي تعكس الاعتبارات الثقافية والدينية والأخلاقيـة للمجتمع. إنها الإطار المرجعي الذي يُستخدم لتحديد مدى صلاح أو خطيئة مختلف التصرفات والسلوكيات لدى أفراد تلك المجتمعات.
ومن اللافت للانتباه كيف تأثرت القيم أخلاقياً ودينياً بسبب الطابع المادي السائد في الحضارة الحديثة. وقد خلق الاعتماد الكبير على الجانب المادي انقساماً واضحاً بين القيم الدنيوية والنواحي الروحية، الأمر الذي أسفر عن فقدان كثيرٍ منها. صحيحٌ أن وسائل الإعلام كانت ذات تأثير كبير في انتشار المعرفة وتعزيز التواصل العالمي، لكن شوائب الاستغلال والتلاعب بالمحتوى السلبي قد ألقت بثقلها أيضاً على المشهد العام، وبالتالي زعزعت ثبات واستقرار تلك القيم.
وتبرز المقارنة بين الثوابت القيمية للحضارة الإسلامية والحركة المستمرة للقيم في الحضارة الغربية حقيقة مهمة حول الطبيعة الديناميكية للتغيير الاجتماعي. فالحضارة الإسلامية مبنية على قاعدة راسخة من القيم الدينية المنتمية إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة، ممّا يحفظ تماسكها وانسجام عناصرها المختلفة دون تغيير جذري بمرور الوقت. بخلاف ذلك، تحتكم الحضارت الغربية -والتي تعتمد أساساَ على النظريات الاجتماعية والفلسفات الوضعية- لقاعدة متحولة باستمرار نتيجة التأثيرات المعرفية الجديدة والمتجددة دائماً والتي تطرأ عليها. وهذا الاختلاف الجوهري يعكس اختلاف المصدر الرئيسي لكل حضارة فيما يتعلق بتشكيل منظومة قيمها الخاصة بها.
وفي نهاية المطاف، تبدو الحضارة الحديثة رغم تقدمها التكنولوجي الهائل أنها قصيرة النظر حين نسيتها جانب الرعاية الروحية والحفاظ على النواحي الإنسانية لصالح التركيز الزائدعلى الجانب المادي فقط. وهو أمر يأخذنا إلى قلب الموضوع إذ تؤكد تجاربنا الإنسانية بأنه ليس بوسع اكتشافات مادية دون توازنه الروحي تحقيق السلام الداخلي وحقيقية رفاهية الشعوب حقاً. وهنا يكمن جمال وجهة نظر الحضارة الاسلامية التي تجمع بكفاءة بين احتياجات العالم القدسي وطلبات الحياة الدنيا بطريقة توافقية تحقق الإنصاف للمكانة الكاملة للإنسان داخل زمرة العالمين.