شهد العصر العباسي الأول ازدهاراً ثقافياً كبيراً امتد إلى العديد من المجالات الفنية والأدبية، وكان للغناء والموسيقى مكان بارز فيه. يُعتبر هذا الفترة زمن نهضة حقيقية لمختلف الفنون، ومن بينها الغناء والموسيقى التي عرفت تطوراً ملحوظاً تحت رعاية الخلفاء والسلطانين الذين كانوا يقدرون هذه الأمور ويُحفزون عليها. سنتناول هنا أهم مظاهر الموسيقى والغناء خلال تلك الحقبة الزاهرة.
في بداية حكم الدولة العباسية، كانت بغداد مركزاً أساسياً للفكر والثقافة الإسلامية، مما جعل منها قبلة للمثقفين والفنانين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي آنذاك. كان الخليفة هارون الرشيد أحد الداعمين البارزين للإبداع الفني والإطناب الأدبي؛ فقد اهتم بشخصيات معروفة مثل إسحاق الموصلي وإسماعيل المغربي وأبو نواس وغيرهم ممن تركوا بصمات واضحة في تاريخ الشعر العربي والموسيقى العربية. كما أسهم وجود الشعراء والنقاد أمثال أبو الحسن الجعفي وجرير وابن الرومي بشكل كبير في تشكيل المشهد الفني لهذا الوقت.
كانت الألحان والنوتات الموسيقية تغنى أثناء الاحتفالات الملكية الرسمية والحفلات الخاصة بالأعياد الوطنية والدينية. وقد نشأت فرق موسيقية متخصصة ترتبط ارتباط وثيق بالمحكمة السلطانية وتكون جزءا أساسيا من مراسم تقديم الطلبات والتظاهر بالحكم وبذخ السلطة. وكانت هناك أيضاً حلقات تعليم الموسيقى تقام داخل القصور وخارجها، مما يشير إلى انتشار التعلم والمعرفة بها بين الطبقات الاجتماعية المختلفة وليس فقط لدى النخب الحاكمة أو المثقفة.
ومن أشهر الشخصيات المؤثرة في مجال الغناء والموسيقى ابنة الخليفة المسترشد بالله "ربيع"، والتي برعت في أداء الربابة وعزف الناي بالإضافة لإتقانها للشعر. ساهم ظهور شخصيتها الأدبية والفنية في رفع مستوى قبول المجتمع للعروض الموسيقية المنتظمة وتعزيز حضورها الاجتماعي والعائلي الواسع. كذلك سنحت الفرص للسيدات للتعبير عن مواهبهن ومشاركتهُن فنونهن العامة بطريقة أكثر انفتاحًا مقارنة بما سبقه من حقب زمنية إسلامية أخرى.
وفي المقابل ظهرت مدارس غنائية ومعاهد فنية جديدة توفر التدريب الأكاديمي لتعليم آلات موسيقية مختلفة وطرق جديد لتقديم الآداء الصوتي المتنوع. تأثر هذا الاتجاه بتلاقح الثقافات وفنون شرق آسيا وشمال أفريقيا الواردة عبر التجارة الخارجية واتصالات التجار والشعوب الأخرى خارج الحدود السياسية للدولة العباسية حين ذاك. تسجل لنا المصادر التاريخية سفريات الرحالة العرب وغزواتهم البربرية ونقل بعضهم لأعمال فنية خارجية ما استوحى منه البعض عناصر مبتكرة دفعت بالتطور المحلي للأمام نحو المزيد من الإبداعات الأصلية المتجددة باستمرار.
ختاما، يمكن اعتبار فترة الحكم العباسي الأولى ذروة مضيئة للحياة الثقافية عامةً وللنظام التعليمي الخاص بالموسيقى تحديداه. لقد شكل الجمع بين التقليد القديم واستقبال الأفكار الجديدة أرض خصبة لتحويل الوطن الكبير إلى مسرح عالمي لكل أشكال الفنون الجميلة..