كان أبو إسحاق محمد المعتصم بالله، المعروف بشكل أكثر شيوعًا باسم المعتصم، ثامن خلفاء الدولة العباسية، أحد أبرز الشخصيات التاريخية في العصر الإسلامي. ولد هذا القائد البارز حوالي العام ١٧٩ هجري (٨٠٤ م)، وهو ابن هارون الرشيد الشهير وابن ماردة خاتون التركية الأصل. برز الاعتصم بملامحه الفريدة؛ بشرة بيضاء ولحية أصهب، وطول متوسط مع مزيج مميز من الألق اللون. رغم ضعف مهاراته في القراءة، إلا أنه يتميز بحكمته وحسن بلاغته، مما أكسبه مكانة خاصة وسط سلالة عباس. اعتبر البعض أنه الأكثر هيبة ورقي بين جميع حكام بني العباس.
تولى المعتصم الحكم بعد وفاة أخيه المأمون عام ٢١٨ هجري، ليبدأ فترة حكم دامت تقريبًا تسعة أعوام وثلاثة شهور. خلال هذه الفترة، أثبت نفسه كواحد من الأقوى والحاسمين للعباسيين. أولى اهتمامًا كبيرًا لاستقرار دولته وتعزيز حدودها. ومن أبرز الإنجازات التي حققها: ازدهار التجارة والصناعة تحت رعاته، استخراج الثروات الطبيعية مثل المعادن بكفاءة عالية، تحسين الخدمات العامة بما يعود بالنفع على شعبه، دعم التعليم ودعاة العلم، تعميق الترجمات الثقافية والفكرية، وبناء مؤسسات علمية جديدة. لم يغب الجانب الأمني أيضًا عن أجندته الحاكمة، إذ تمكن من القضاء على الفتن الداخلية وجماعات الزندق المخربة مثل طائفة الخرازميون الذين ادعوا معتقدات غريبة تجمع عناصر من المجوسية والإسلام.
ومن النقاط البارزة الأخرى تاريخيًا هي حملاته العسكرية الناجحة ضد الإمبراطورية البيزنطية آنذاك. يشتهر فتح عمورية -مدينة ساحلية عند الحدود الشرقية لأوروبا اليوم- والذي يُعد واحدًا من أهم الانتصارات العسكرية الإسلامية منذ قرن مضى حين دحر المسلمون جيوش القوط الغربيين وانتزعوا معظم شبه الجزيرة الأيبيرية منهم. بناء العاصمة الجديدة لها بصمتها الخاصة ضمن قائمة إنجازات المعتصم البارزين؛ سامراء التي اختاروها مركز الحكم بدلاً من بغداد التقليدية وذلك بسبب موقعها الاستراتيجي كموقع دفاعي ممتاز وضمان سلامتهم أثناء الحملات الخارجية. تكثر الرمزية المرتبطة بهذا الخليفة حول رقم 'ثمان' سواء بطول فترة حكمه وغيرها الكثير مما جعل مؤرخونا يسمونه بــ"المثمن" تقديرا وتميزا له.
توفي رحمه الله عام ٢٢٧ هجري الموافق لسنة 842 ميلادية إثر مرض مفاجئ ربما يكون نتيجة لتسمم حسب بعض النصوص التاريخية المتخصصة. ذاع صيته بروحانيته ومعرفته العميقة بالله عزوجل حيث نقل عنه قوله قبل موته مباشرة:"اللهم أنت تعلم خوفي لك دون غيرك." تاركا تراثًا سياسيًا واجتماعيًا ثقافيًا لا يزال يؤرق ذهن الباحثين والمؤرخين لما يحملانه من أسرار وحكمة تلك الحقبة الزاهرة من حضارتنا العربية الإسلامية الجليلة.
