تُعد رحلة الإمام محمد بن إدريس الشافعي إلى المدينة المنورة نقطة تحوّل مهمة في تاريخ الفكر الإسلامي. ولد الإمام عام 150 هـ/767 م في قيسارية، وهي بلدة صغيرة بالقرب من غزة حاليًا، لكنها لم تكن منزله الدائم بعد نشأته الأولى في مصر. انطلق الشافعي في سن مبكرة لاستكمال تعليمه وتوسيع معرفته بالدين الإسلامي والعربية، مما دفعه إلى التحليق نحو عاصمة الخلافة العباسية بغداد ثم الانتقال لاحقًا للمدينة المنورة.
في بداية رحلته، توجه الإمام الشافعي إلى بغداد طلبًا للعلم والتخصص تحت رعاية علماء عصره مثل الأوزاعي وأبي يوسف القاضي ومعمر الباهلي. وفي هذه الفترة بدأ يكتسب شهرة وسمعة كونه أحد كبار الفقهاء والمفسرين للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. ولكن طموحه لم يكن له حدود؛ فقد شعر بحاجة ملحة للاستزادة من المعرفة والاستفادة مباشرة من منابع التعاليم الإسلامية والفقه الحنفي، فتوجه نحو المدينة المنورة - المكان المقدس للحياة الروحية للإسلام.
وصل الإمام الشافعي إلى المدينة المنورة حاملًا معه ثقل سنوات من الدراسة المكثفة والرغبة الجامحة لتعزيز معرفته بالسيرة الذاتية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وفقاً للأحاديث الصحيحة المتواترة. هنا، قضى فترة طويلة ضمن مدرسة الحديث العربية الشهيرة التي كانت مركز جذب لكثير من طلاب العلم آنذاك. اخذ يشهد دروسا عميقة حول الحديث النبوي والأحكام الشرعية مباشرةً ممن كانوا قد عاشوا وحفظوا تلك الحقائق التاريخية أول مرة. كما شهد مجتمع المدينة شعائر دينيه متخصصة وممارسات تقليدية غنية تعلم بها الكثير خلال إقامته هناك لمدة سبع سنوات مستمرة حتى العام 198 هجري الموافق 814 ميلادي.
عند عودته من رحلته المباركة، حمل معّه الإمام الشافعي ليس فقط مجموعة ضخمة من المعلومات والمعارف الجديدة والتي ستشكل أساس مذهبه الخاص فيما بعد وإنما أيضًا روحانية فريدة تأثرت بخدمات المسجد النبوي وتعايشه اليومي داخل المجتمع الصحوي المباشر. وقد أثمرت جهوده المضنية لتأسيس المذهب الشافعي الذي أصبح واحدا من أكثر المدارس القانونية تأثيرًا وانتشاراً بين المسلمين حول العالم. وبذلك اكتمل دورة غير مسبوقة جمعت بين التنوير الأكاديمي والإلتزام الروحي المثالي لتحقيق هدف سامٍ وهو خدمة الدين الحنيف والدفاع عنه عبر فهم عميق للسنه النبوية المطهرة .