في عمق التاريخ العربي القديم، يبرز عهدٌ عُرف باسم "العصر الجاهلي"، وهو فترة غنية بالثراء الحضاري والمعرفة الإنسانية قبل ظهور الإسلام رسميًا. شهد هذا الزمن تحولات ثقافية واجتماعية مهمة شكلت هوية العرب وأثرّت بشكل كبير على مسار الأحداث اللاحقة. يرسم المشهد الثقافي للعصر الجاهلي مزيجاً فريداً يعكس تنوع البيئات الطبيعية المتنوعة وتأثير القبائل العربية المختلفة؛ فكانت كل قبيلة تمثل كيانا ثقافياً منفردا يتميز بلغتها وعاداتها ومعارفها المحلية.
تميز الأدب الشعري خلال هذه الفترة بتواصله الوثيق مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي اليومي للشعب. كان الشعر وسيلة للتعبير عن الأفراح والأحزان والحروب والسلم، كما عبّر الشيوخ والشعراء عبر قصائدهم عن قيم الفروسية والكرم والجود التي كانت محط احترام المجتمع آنذاك. وقد برز العديد من شعراء ذلك الوقت الذين تركوا بصمة واضحة، مثل امرؤ القيس وعمرو بن كلثوم وحسان بن ثابت وغيرهم ممن ارتقى شعرهم إلى مصاف الأعمال الخالدة حتى يومنا هذا.
كما ظهرت جوانب أخرى مؤثرة للثقافة الجاهلية كالحكمة والنكت والفكاهات الشعبية المرتبطة بالحياة البدوية والحضرية أيضًا. بالإضافة لذلك، فقد اعتمد الناس على الأساطير والخرافات لتفسير الظواهر الطبيعية غير المفهومة لديهم والتي أثرت بدورها على معتقداتهم الدينية التقليدية آنذاك.
وفيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية بين أفراد القبائل والعشائر، كانت هناك قوانين عرفية تربط أبناء العمومة والأصهار وأصحاب الولاءات القبلية فيما يعرف بالنظام القبلي أو نظام الثأر الذي كان يحكم العلاقات الاجتماعية لفترات طويلة جداً. أما بالنسبة للمرأة فأخذ دورها مكانته المناسبة بحسب الأعراف والتقاليد الخاصة بكل منطقة وبقبيلتها تحديدًا، رغم وجود اختلافات كبيرة حول حقوق النساء مقارنة بفترة ما بعد الفتح الإسلامي لاحقا.
وبشكل عام، يعد العصر الجاهلي مرحلة انتقالية أسهمت بشكل فعال في تشكيل الهوية العربية واستعداد المجتمع لاستقبال الدين الجديد -الإسلام-. إن فهم تاريخ تلك الفترة يساعدنا كثيراً لفهم طبيعة المجتمع العربي وظروف نشأة ونشر الرسالة الإسلامية وكيف خدمت الدين الجديد ودعمته بعد نزوله مباشرة مما جعل من انتشاره سهلاً نسبياً داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها أيضاً مستقبلا بإذن الله تعالى.