استحوذ المغرب العربي، منذ الفتح الإسلامي حتى عصر النهضة الحديثة، على مكان مرموق ومكانة بارزة ضمن خارطة الحضارات العالمية. لم يكن هذا الازدهار محصوراً فقط في مجالات السياسة والدين، بل امتد ليحتل مواقع ريادية في العديد من المجالات الأخرى مثل العلوم، الفلسفة، الأدب، الفنون والصناعة التقليدية. هذه الرؤية الشاملة للحضارة ستوضح كيف ساهم المغرب العربي بشكل كبير في تعزيز وتعميق الإرث الثقافي والإنساني للعالم الإسلامي.
في القرن الثامن الميلادي، عندما وصل المسلمون إلى شاطئ شمال أفريقيا، وجدوا أمامهم حضارة قوية ذات تاريخ غني ومتنوع. بدلاً من محاولة القضاء عليها، اختاروا الانخراط معها ودمج عناصر مشتركة بينهما. أدى ذلك إلى خلق ثقافة جديدة متعددة الجوانب تأثرت بالعناصر الأفريقية الأصلية، الرومانية البيزنطية والعربية الاسلامية. وقد شكلت مدينة قرطاجنة تحت حكم الأغالبة (800-909 ميلادي) نواة مهمة لهذه الوحدة الجديدة التي تجمع الماضي والحاضر والمستقبل.
إحدى أكثر سمات الحضارة المغربية فرادتها والأكثر شهرة هي نظام التعليم الجامع ("الجامعة") والذي بدأ بالتشكل خلال القرن الثالث الهجري/العاشر الميلادي. برزت مدن كفاس وطنجة والقصرين وفاس مراكز رئيسية للتعليم العالي حيث اجتمع علماء وأساتذة ذوو باع طويل لتبادل المعرفة وإنتاج أعمال علمية وثقافية مستنيرة. كان هؤلاء المؤسسو لمرحلة نهضوية حقيقية أثمرت العشرات المؤلفات الرائدة في القانون المدني والشريعة، الرياضيات، الفلك، الطب والتاريخ وغيرها الكثير. ويُذكر هنا اسم ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع الحديث والسهروردي المقتول صاحب كتاب "افلاطون الباطني" الشهير.
ومن أهم ما يستحق الذكر أيضا هو الدور الكبير للمغرب العربي كمركز لنشر اللغة العربية واستخدامها كلغة أدبية ولغة للتواصل العلمي بين مختلف الأمم الأوروبية عبر مترجميه ودعاته الذين كانوا يترجمون الأعمال اليونانية القديمة والرومانية والبيزنطية الى اللغة العربية ثم تدريجياً إلى اللغات المحلية في أوروبا الغربية لاحقا. ومن هنا جاء اصطلاح القرون الوسطى بأنه 'العصور الذهبية للإسلام'.
كما تساهم الصناعات اليدوية المتوارثة مثل النسيج الخزفي والخزفيات والفن التشكيلي بإضافة أخرى لجمال وجه الحضارة المغربية. فهذه الصناعات ليست مجرد منتوجات تجارية ولكنها تحمل رسالة جمالية عميقة مرتبطة بتقاليد المجتمع وعاداته الاجتماعية وهويتها الثقافية الواضحة والتي تميز بها كل منطقة مغربية خاصة عنها المناطق الأخرى.
وبالتالي فإن مساهمة المغرب العربي بالحركة العالمية للاقتصاد والثقافة تشهد بأن هذا الجزء الحيوي من العالم الاسلامي ظل دائماً مصدر إلهام ومعرفة للأنظمة السياسية الدولية وكذلك للأجيال المتعاقبة مما جعل منه نموذجاً ناصعا لحفظ التراث الإنساني ورعاية قيم التسامح واحترام الاختلافات الثقافية وصيانة حقوق الإنسان وحماية المواقع التاريخية والمعمارية بما فيها المدن القديمه التي تعتبر جزءا أساسيا من تراث البشرية المشترك.