يعدّ أبو علي محمد بن عبد الله بن سعيد الحميري المعروف بابن جني أحد أهم العلماء اللغويين في التاريخ العربي الإسلامي. كان له إسهام كبير في فهم وتفسير مبادئ علم النحو والصرف، بالإضافة إلى دراسته لأساسيات اللسانيات وأصول نشأة اللغة نفسها. ضمن مؤلفاته العديدة، يُعتبر كتاب "الخصائص" واحداً من أكثر الأعمال الدقيقة والفريدة التي تناولت بحثاً عميقاً حول طبيعة اللغة ومصادرها.
في هذا الكتاب، قدم ابن جني وجهات نظر مختلفة حول مصدر اللغة العربية. فقد رأى أنها ليست مستمدة مباشرة من صوت الحيوان كما اقترحت بعض النظرية القديمة، ولكنها نتاج عملية اجتماعية وثقافية معقدة. يرى أنه بينما يمكن للصوت الطبيعي أن يشكل الخطوط الأولى للتواصل البشري، فإن تطوير نظام لغوي متكامل يحتاج إلى وجود مجتمع بشري قادر على تبادل الأفكار والمعرفة عبر تلك الأصوات.
كما أكد ابن جني على دور التجربة الإنسانية والتطور الاجتماعي في تشكيل اللغة. بحسب وجهة نظره، بدأت البشرية باستخدام الإشارات البدائية لتوصيل الأفكار، ثم تحولت هذه الإشارات تدريجياً إلى أصوات والكلمات المكتسبة بالتمرين والممارسة اليومية. وبهذه الطريقة، تتراكم الخبرات الجماعية للشعوب وتُحدِث بذلك ثورة في طريقة التواصل بين أفراد المجتمع الواحد.
ومن الجدير بالذكر أيضاً تصوره حول ارتباط اللغة بالعقل البشري والقيم الثقافية للمستخدمين لها. حيث ربط ترتيب الحروف والكلمات بصفة عامة بما يواجهه الفكر الإنساني والعاطفة حين التعامل مع مفاهيم ومعنى الحياة بشكل عام. إن كل ذلك يؤدي بنا نحو تحقيق هدف أساسي وهو توصيل الحقائق والأفكار بطرق واضحة ومباشرة داخل نسيج مجتمع ما.
إن أعمال ابن جني تعتبر ذات قيمة كبيرة بالنسبة لعلم اللسانيات الحديثة لأنها تقدم رؤى فلسفية ونظرية غنية عن طبيعة اللغة وكيفية ظهورها وتطوّرها عبر الزمان والمكان. وفي الوقت نفسه، تعكس قدرته التحليلية والدقة العلمية لمنظور معرفي قديم ولكنه مازالت لديه الكثير مما يعرض لنا حتى يومنا الحالي.
