حكم أبي الطيب المتنبي حول الفخر وأثره في حياة الإنسان

يُعتبر أبو الطيب المتنبي أحد أهم شعراء العرب الذين تركوا بصمة واضحة في الأدب العربي عبر تاريخه الغني. كان للفخر مكانته الخاصة لدى الشاعر الكبير؛ فهو ل

يُعتبر أبو الطيب المتنبي أحد أهم شعراء العرب الذين تركوا بصمة واضحة في الأدب العربي عبر تاريخه الغني. كان للفخر مكانته الخاصة لدى الشاعر الكبير؛ فهو لم يكن مجرد مظهر خارجي يُعبر عنه بالنسب والتاريخ العائلي فقط، بل امتد ليشمل الروح والقيم الداخلية للشخص أيضًا. إن نظرة المتنبي لفكرة "الفخر" تجسدت بتجلياته المختلفة في أشعارِه وتعبيراته الشعرية الجريئة والمؤثرة.

تتجلى رؤية المتنبي لفخر النفس فيما قاله ذات مرة: "أنا الذي أرى الدنيا وما فيها عَندي غَرَضٌ ولا يَعْلَمُ الناسَ ما غرضِي"، حيث يؤكد هنا على اعتزازه بنفسه ووضوح هدف حياته حتى لو كانت طبيعة هذا الهدف غير معروفة للآخرين. ثقة الشاعر بنفسه مصدرها معرفته الذاتية ووعيه بما تصبو إليه روحه، مما دفعه لتقديم صورة مشرقة للفخر كقوة داخلية تحرك الفرد نحو تحقيق آماله وبناء إنجازاته الشخصية بعيداً عن سعي الآخرين للتكريم المجتمعي التقليدي.

ومن الأمثلة البارزة لأسلوب المتنبي في تصوير فخره الداخلي قصيدته الشهيرة التي تبدأ بـ "ألا كل شيء ما خلا الله باطل"، والتي يعكس بها قدرته على التفريق بين القيمة الحقيقية للأشياء والثروات الظاهرية الزائلة مثل المال والنسب والحظوظ الأخرى المؤقتة. بحس فلسفي عميق ينظر المتنبي إلى الحياة ويجد أنها عبث إلا إذا تم استثمار طاقة الشخص وطاقتها بشكل صحيح بطرق تعود بالخير والفائدة عليه وعلى مجتمعه.

وفي جانب آخر، يستخدم المتنبي صور شعرية نابضة بالحياة مستمدّة من الطبيعة الخلابة لإظهار قوة خارقة للفكر الإنساني عندما يتم توظيفه بإيجابية وتحويل قدرات المرء لتحقيق الإنجازات والإبداعات اللافتة للنظر: "والليلُ مُظلمٌ وقد جاء بمَنظَرٍ يخطف الأبصارَ منه نورٌ لهباب". هنا يقارن الليل المقفر بنور العلم والمعرفة المستمدة من داخله، مؤكداً دور المعرفة والعقلانية في رفع مقام الأفراد فوق حدود الواقع المرئي المحدود.

كما تناول شاعرنا كذلك مسألة الفخر المرتبط بالأصل النقي النبيل للإنسان وكيف يمكن أن يشكل حافزاً لتقدُّم وتطور الشعوب جمعاء بدلاً من كونها عقبة أمام تقدمهم كما هي حال بعض المجتمعات المغتربة بشجرة نسب فارغة المحتوى: "إنما الأمَمُ كالأشجارِ وإنما الرجالُ كالثمارِ مختلفا طباعا". إذ يشجع هذه النظرية المثالية للتقدم بثبات الشخصيات القيادية الأخلاق الحميدة والمثالية متمثلة بالعروض السامية للقادة العظام أمثال النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي وحد العرب وجدد نهضتهم بعد فترة انحطاط طويلة.

خلاصة الأمر أنه رغم تكرار صور الفخر الخارجي عند العديد من الكتاب القدامى ومعاصريهم، فإن المتنبي قدم لنا نموذجًا أصيلًا وفريدًا للفخار الداخلي المبني علي أسس أخلاقية عالية ومتينة تؤهل إلى بلوغ مراتب عليا من التأثير الثقافي والإنساني الدائم عبر التاريخ. فعندما يدفع الفخر بالإنسان للاستزادة المعرفية والسعي لنشر الخير بين الناس، فهو ليس مجرد زخرف بريء ولكنه أساس راسخ للدوران الاجتماعي الصحي والنمو الرحب للمجتمعات المتحاضنة مع مفاهيمه الرشيقة.


يارا الفاسي

7 مدونة المشاركات

التعليقات