منذ نشأتها الأولى وحتى تطورها الحالي، كانت اللغة العربية الفصحى الحديثة شهادة حية على مرونتها وقدرتها على التأقلم مع التحولات الاجتماعية والثقافية. تتجذر جذور هذه اللغة العريقة في البدايات المبكرة للإسلام عبر القرآن الكريم الذي يعتبر مرجعيتها الأساسية والأكثر تأثيرًا. ومع مرور الوقت، تطورت أشكال مختلفة من العربية، مثل العامية والمخاطبة اليومية، إلا أن الفصحى حافظت على مكانتها كمحرك رئيسي للتواصل الثقافي والعلمي والإداري.
في القرنين الثامن والتاسع الميلاديَين، برزت "العربية الوسطى"، وهي مرحلة انتقالية مهمة بين القديم والفصحى المعاصرة. خلال تلك الفترة، ظهرت العديد من الأعمال الأدبية والنثرية التي ساهمت بشكل كبير في تشكيل شكل ونظام اللغة الحديث. ثم جاء عصر الدولة العباسية (750-1258م)، والذي يعد ذروة ازدهار الثقافة العربية وفجر نهضة أدبية لم تشهد لها مثيل حتى ذلك الحين. شهد هذا العصر ظهور شعراء عظماء ومؤرخون ومفكرون تركوا بصمة واضحة ومتجددة في تاريخ العرب.
بعد فترة الاضطرابات السياسية والجغرافية التي عاشتها المنطقة، استعادت اللغة العربية زخمها مجددًا بفضل جهود المؤرخين واللغويين الذين سعوا للحفاظ عليها وصقل جماليتها وإثرائها بمفردات جديدة. وكانت فرنسا رائدة فيما يعرف الآن بالنظرية القومية العربية، والتي بدأت بالعمل بشكل منهجي لتحقيق الوحدة اللغوية والثقافية مؤدية بذلك إلى وضع قواعد النحو والصرف العربي القياسيين اللذان نعرفهما اليوم.
ومن الجدير بالذكر أيضًا الدور المحوري للجيش المصري المصري الناطق بالعربية في نشر الاستخدام الواسع للغة الفصحى خارج حدود مصر نفسها، خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية عندما أصبح التواصل باللغة العربية ضرورة ملحة لقوات الحلفاء المنتشرة في الشرق الأدنى. أخيرا وليس آخراً، لعب التعليم دور حيوي في ترسيخ مكانة اللغة رسميا ضمن المناهج الدراسية الحكومية مما أكسبها مصداقيتها كمكون أساسي للهوية الوطنية لدى معظم الدول ذات الغالبية المسلمة بما فيها دول الخليج العربي والدول الأفريقية الشمالية.
وفي النهاية فإن فهم الماضي يساعدنا كثيرا على تقدير قوة ودائمة مفعول اللغة العربية كوسيلة اتصال حيوية وطرق حياتية متعددة. إنها ليست مجرد وسيلة لنقل الأفكار ولكنها كذلك نافذة عميقة للعالم الروحي والمعنوي للمسلمين حول العالم.
