قصة صالح من أهل نجد سمعتها من دخيل الدخيل القبلان. من كتاب الشيخ محمد بن ناصر العبودي ( رحمه الله ) - ( معجم أسر بريدة ) - كان هناك رجل اسمه صالح من قرى نجد كان شجاع ويذهب مع العقيلات إلى البلدان المجاورة مثل الشام والعراق وفلسطين وكان محبوبًا من عقيل، وكانت أمه تقول: لا تطول أنا ما أصبر عنك أزود من شهر، ولكن الظروف ما تجي على المطلوب.
سافر صالح وأطال الغياب على والدته وهي تتوجد عليه وعلى شوفه لعله يجي تبرد عليها حرارة قلبها، وكل يوم تنشد عن عقيل: هل جاء منهم أحد؟ وهل الذي جاء شاف ابنها، وكذلك طالت المدة على أم صالح وهي تنشّد عن ولدها كل ركب قادمين من العقيلات .
هذا وكان صالح قد بلغ في الغربة أربع سنوات، فلما أراد أن يرجع إلى أهله اشترى له ناقة وجمع ما أراد أن يحضره معه إلى أهله مما غلا ثمنه وخف حمله، واتفق مع جماعته بالرجوع إلى نجد وكانوا خمسة عشر رجلًا، وكل واحد على ناقته ومعلوم أنهم يختارون من الإبل الطيبات لأن المسافة بعيدة، والسفر شاق.
ومشوا من الشام متجهين إلى نجد وفي أثناء الطريق لقيهم قطاع الطرق وأنزلوهم عن الإبل بالقوة، وما كان من صالح إلا أنه أخذ يطاردهم ليتحصل على ناقته، فقام أحد الحرامية وضرب صالح مع ساق الرجل فكسره فسقط صالح على الأرض لم يستطع أن يتحرك وذهب الأعداء بجميع إبل العقيلات وبقي صالح مكسورًا واتفقوا جماعته أنهم يذهبون ويتركونه . لأنه ما في أيديهم حيلة على حمله، وليس قربهم بلد، ومشوا وتركوه يبكي ويتلوى من شدة الوجع.
ولما صار بعد غروب الشَّمس أيقن أنه هالك لا محالة حيث إن السباع كثيرة في هذه الأرض، وبعد قليل من غروب الشَّمس إذا هو يسمع صوت المشي قريب منه ومتجه إليه فقال: في نفسه لعله سبع يأكلني أستريح وإذا الذي يسمع رجل معه حمار، والرجل شيخ كبير بالسن، فقال الرجل: وش أنت يا هالسمار( السواد بالليل )، وكان صالح خايف وعطشان وفيه كسر شديد، فقال أنا مكسور الساق، فقال الشايب يا الله الخيره من الذي كسرك؟ قال: الحرامية.
وكان الشايب قوي فشال صالح بين يديه وأركبه على الحمار وذهب به إلى بيته الذي بين الجبال، وهذا الشايب من الغنمي ( صلبي ) الذين يصيدون الظباء ويسمى لحمها الجلاء في ذلك الزمان ، فلما وصل إلى بيته أنزله برفق وقال لزوجته . وعياله، هذا الرجل عتيق إن شاء الله، وقام وجبر ساقه وكان ماهرًا بهذا العمل.
ومن الصدف أن الذي كسر رجل صالح ابن هذا الشايب كان مع الحرامية وبعد ما خلص من تجبير صالح وإذا الحرامي يصل إلى بيت أبيه، وكان الحرامى له بيت خاص ليس تبع والده، ولكن أراد أن يعطي والده من الكسب، وكانت الناقة التي مع الحرامي هي ناقة صالح، فلما سلم على أبيه وهو لم ير (صالح) من أجل أنه لايذٍ عن دربه وصالح شاف ناقته وجلس الحرامي عند والدته يسلم عليها وذهب الشايب إلى صالح عساه ارتاح فلما سأله عساك ارتحت إذا هو يبكي فقال الشايب: ما هذا البكاء؟ زاد عليك الوجع يا ولدي؟ فقال: لا والله سكن الوجع الله يبرد قلبك بالجنة، ولكن الناقة الذي أناخت هي ناقتي فقال: الشايب اقصر صوتك وابشر بها إن الذي جابها هو ولدي فسكن صالح وفرح بقول الشايب.
رجع الشايب إلى ابنه وقال الحذية يا ولدي من ها المكسب الذي معك فقال أبشر يا والدي بالذي تبي فقال: أبي الناقة والذي عليها، وإن كان أخذت منها شيء فرده عليها، فقال ابنه: تهون علي يا والدي، والله ما أخذت من عليها شيء إلا هذا العصا وهاك إياه.
وقام الحرامي وقبل رأس أبيه، وذهب إلى بيته على رجليه والناقة لم ينزل الذي عليها ومعقولة عند البيت، وكان عليها من الفلوس ثمان مئة نيرة وعليها أصناف غيرها، فقام الشايب إلى الناقة وقربها إلى صالح وعقلها بجانبه، وقال هذه ناقتك، وأنزل جميع الذي على الناقة وجعله عند رأس صالح وقال أبشر يا ولدي إنك بعد الشفاء سوف تذهب إلى أهلك حيث إننا على طريق عقيلات كل أسبوع يمر منهم جماعة، اطمئن. وأما جماعة صالح فإنهم مشوا على رجليهم يتخطرون من بلد إلى بلد حتى وصلوا إلى أهلهم، وحال ما وصلوا ذهبت أم صالح تسألهم عن ابنها فقال أحدهم: إنه مكسور، وأخذ الذي معه وطايح في أرض كلها سباع، والله ما تشوفينه غير ما شفتيه، فأغمي عليها وجزعت على موته وكل من سألها عنه قالت: ذبحوه الحرامية.
أما صالح فإنه جلس عند الشايب تسعين يوم وهو لا يأكل إلا لحم ظباء وجبرت رجله تمام.
وكان الشايب يدعي أبو ماجد .
وبعد ما تم عند أبو ماجد ثلاثة أشهر مشى على رجله، فقال لبو ماجد: ودي ترخص لي أروح للوالدة لعلي أجدها على قيد الحياة، فقال أبو ماجد: أبشر يا صالح بس انتظر الذي يأتون من عقيل حتى تخاويهم، الطريق شين ولا كل جماعة يصلحون للخوة .
وبعد يومين قال أبو ماجد: هذولا ركب من أهل نجد ويصلحون، كان ودك تخاويهم، فقال صالح: ودي وفك الذهب الذي معه وأخذ مئة نيرة وكبها في حجر أبو ماجد،
وقال: ما هذا جزاك يا أبو ماجد جزاك تلقاه عند الله.
فقال أبو ماجد: أفا يا صالح أفا، يا الله الخيرة تبيني آخذ عليك إيجار، والله إنه ما يطب يدي منك ولا نيرة، أنا أبتغي جزاي من الله وسلم على أمك وقل لها تدعي لي أنا بحاجة للدعاء.
وسلم عليه وودعه ولحق الركب وسلم عليهم، فقال أحد الركب: يا صالح إنك خرجت من مدة كم شهر، فقال: إني رجعت إلى فلسطين ولبثت هناك هذه المدة، وخرجت ولكن خفت وجلست عند صاحب البيت لعلي أجد أخويا، ولما شفتكم فرحت ولحقتكم، أنت تعرف الدرب، والواحد بالبر ذليل.
فقال: صدقت الله يحييك، وكانت ناقته في هذه المدة مرتاحة وسمينة وتصير في أول الركب، ولم يعلم أحد من هذا الركب أنه مكسور ومأخوذ ولا يدري وش سووا أخوياه، هل وصلوا أو ماتوا.
وأما والدته لما جاءها الخبر أنه منكسر والسباع تأكله قبل أن يصبح قامت تبكي وتسترجع، وإذا سئلت عن صالح قالت أنه ميت يرحمه الله .
ولم يكن عند والديه شك إلا أنه مع الموتى، ولو كان حي لجاء مع أخوياه الذين جابوا الخبر.
ولما وصل صالح إلى بلده، وذلك وقت صلاة الظهر وقف عند باب أهله، قاضب رسن الناقة في يده عند الباب إذا والده يخرج للصلاة فاعتنق والده يقبله (تقبيلٍ) حار ودموعه تنهال على خده فابتهر الوالد من الذي اعتنقه وزاد بالتقبيل على رأسه وخشمه وأخيرًا ضمه إلى صدره، وبعد هذا سقط على الأرض فتعجب الوالد وارتعش من هذا السلام الذي لم يعهده، فجلس عند رأسه وهو يبكي ووالده يسترجع يقول بصوت عالي لا حول ولا قوة إلا بالله.
فسمعته أم صالح وهو يسترجع وطلعت عليه وقالت وراك اسم الله عليك، من هذا الذي يبكي عندك فقال لا أدري إنه يقبلني ويلمني على صدره وآخر شي سقط يبكي، وكان صالح متغيرًا كثيرًا عنهم ولم يعرفه والده.
ولما سمع صالح صوت أمه خاف عليها أن تنخلع وأطال الإنكباب على الأرض هذا ولم يعلم صالح أن الرفقة قد أخبروا عنه والدته.
وبعد مدة قليلة جلس وهو يبكي ومن شدة البكاء لا يعرب الكلام.
وكانت أمه متحجبة فقال صالح بصوت خفي أنا صح لم يقل صالح، فقالت والدته: وش تبي يا ابن الحلال قطعت الرجل عن الصلاة مع الجماعة.
وقالت لأبو صالح: رح صل واتركه حتى يصحي يمكن فيه صرعة، هذا مسكين، فقال صالح أنا صالح ما بي صرعة ما بي إلا العافية، وقام واقف فدخلت أمه داخل البيت وأغلقت الباب دونه فقام واقف ومحش الدموع عن عينيه وقال يا والدي أنا ابنك ووالدته تسمع قوله أنا ابنك صالح فعرفه أبوه، ونادي: يا أم صالح، هذا صالح، هذا صالح، ويرفع صوته وبكى وسمع الجيران أبو صالح وهو يصيح وحضروا وعرفوا صالح، فقال أحد الجيران: الكايد أمه هي المشكل وأمه تسمع داخل الباب، ولكن لم تصدق أن ابنها على قيد الحياة، بل جازمة أنه أكله الذئب.
وفتحت الباب وهي لم تتحجب، وقالت: وش تقولون؟ فقام أحد الجيران وأضاف عليها خمارها، وقال يقول: إني جاي من عند صالح فقالت وش صالح، هماه أكلته السباع؟ فأخذ يسمي عليها فقال أحد الجيران ادخلوا عن السوق فدخلوا وأدخل صالح الناقة، وأغلق الباب وجلس هو وأبوه، فقال والده يا أم صالح: وراك رحتي هذا صالح والحمد لله على العقلان بعد اليأس منه.
وكان لصالح أخوات أصغر منه بكثير وولد أقل منهن فلما سمع خوات صالح الأصوات داخل الحوش وامهن واقفة تريد أن تصلي الظهر، وهي مقابلة إلى الشرق فقالت أحد البنات: يمه الذي عند أبوي والله أخوي صالح.
وقالت الثانية: أي والله إنه أخوي صالح، فقالت: وش صالح وخرن أصلي، ووجهها إلى الشرق.
وجاء إخوان صالح وسلموا عليه عرفت أنه ابنها وقالت في تكبيرها والله إنه صالح واعتنقته تبكي وهو يبكي ويسمي عليها، وقال لها القبلة كذا يا أم صالح.
فقالت لا أقدر أصلي وأنا واقفه بل أصلي وأنا جالسة وأنت صر أمامي حتى أتم صلاتي، لا تفارق عيني حتى أشبع منك، فقال: أبشري، وقال لإخوانه: نزلوا عن الناقة وأحضروا الذي عليها عندنا.
وبعد الصلاة اجتمع صالح مع والديه وإخوانه وصار يقص عليهم ما جرى له من أوله إلى آخره، ولكن والدته تقبله مع عينيه وتبكي وكانوا في حالة من الفقر فرد الله عليهم ابنهم ورزقهم بلحظة وهذا من الله .