في زاوية هادئة من ذاكرتي العميقة, هناك لحظات تعود لتتحرك بكل تأكيد عندما يذكر الطعام. أحد هذه اللحظات الخاصة التي طالما أثارت شغف ذوقي وحنيني ليس سوى "حلم الأكل". ربما يبدو غريباً الحديث عن حلم كوجبة عشاء, لكنها قصة ترتبط بشعور عميق للأمان والدفء المرتبط بالبحر.
تقع بلدتنا الصغيرة على شواطئ خليج متلألئ تحت أشعة الشمس الذهبية. عندما كنت طفلاً, كانت أيام الصيف الطوال مليئة بالمغامرات عند الشاطئ. لم تكن مجرد إجازة بالنسبة لنا؛ بل كانت حياة كاملة تتشكل حول روتين يومي بسيط ولكنه جميل جداً. بداية الصباح مع رائحة سمك البلطي المشوي الذي كان أبي يعدّه كل صباح. تلك الرائحة المحلاة بنسيم المحيط ستنجذب إليّ دائماً بغض النظر عن المكان الذي أسافر إليه لاحقاً.
أحد أكثر الأحلام رسوخاً في ذاكرتي يعود ليوم استثنائي خاص. لقد حان وقت عيد ميلادي الرابع عشر، وهو حدث كبير لأي طفل في مجتمعنا البحري. بعد الفطور المعتاد للأسرة، قررت أمي بإعداد طبق خاص غير عادي. كانت محاولتها الأولى لإعداد الـ "سمكة المقليه"، وهي طبق مفضل لدى الجميع ولكن دائمًا ما يُترك لخبراء مطبخنا المحليين فقط بسبب التعقيد الكبير لتحضيره بشكل مثالي.
بدأت العملية مع تصفية وتنظيف أصغر سمكتنا النقية والمشرقة. ثم قطعت الأم قطع صغيرة منها بينما بدأ أخوتي وأبي وأنا نجهز الخلطة السرية للمعجون قبل قليها الزيت الساخن الذي ملأ بيتنا بحرارة حميمة وكأنها دفء البحر نفسه. وبعد ساعة طويلة ومفعمة بالتوقع والحماس انتهى الأمر بنا جميعا أمام صحن ممتلىء بكرات ذهبية مقرمشة ورائحتها تقهر الجوع حتى الأكثر دعابة بيننا!
هذه التجربة لم تكن مجرد وجبة; كانت احتفالاً بالحياة اليومية والثقافة والعائلة. إنه شعور لا يمكن وصفه إلا بأنه نوع من السلام الداخلى يأتي مباشرة من قلب الطبيعة نفسها - الأرض والبحر والقلب الإنساني الواسع الرحيم الذي يحمل هذا النوع من الحب للعائله والأصدقاء والأطعمة الجميلة مثل سمك القلي السوري التقليدي. هذا هو جوهر "حلم أكل السمك": الحكايات القديمة التي تخترق الوقت بأرواح جديدة في كل مرة يتم فيها إعادة سرد القصص القديمة حول النار الصيفية الدافئة وبجانب المائدة المنزلية العزيزة.