في عصور ما قبل التاريخ المصرية، كان الزئبق مادة أساسية تستخدم في العديد من الصناعات الحرفية وأشكال الفنون القديمة. يُعتقد أن المصريين القدماء اكتشفوا خصائص هذا العنصر الثقيل وغير القابل للتآكل واستخدموه بكثرة في دفن موتاهم كجزء من معتقداتهم الدينية. وقد ذُكر استخدام الزئبق بشكل واضح في الكتابات الهيروغليفية التي تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد.
وفقاً للأبحاث الحديثة، فإن طريقة تحضير الزئبق لدى الفراعنة كانت تعتمد على عملية تفريغ خام الثيوهيدرينيتسيت - وهو معدن يحتوي أساسياً على الرصاص وثاني أكسيد الزئبق- في بيئة حمضية قوية لإنتاج بخار الزئبق النقي. هذه العملية تتطلب مهارة كبيرة ومعرفة واسعة بالكيمياء البدائية آنذاك. يذكر لنا المؤرخون القدامى أيضاً عن وجود مراكز متخصصة لصهر وتنقية الزئبق بالقرب من المناجم الرئيسية مثل المناجم الموجودة حاليًا في صحراء الواحات البحرية بمصر.
استنادًا إلى الأدلة الأثرية المتاحة، يمكن القول إن المصريين استوردوا كميات هائلة من الزئبق الخام عبر التجارة الدولية عبر الصحراء الشرقية والأراضي العربية المجاورة لها والتي تشتهر بإحتوائها على رواسب غنية بهذا المعدن النادر حينذاك. كما تم العثور على آثار لوجود عمليات تصنيع محلية للزئبق باستخدام بعض المواد المحلية كالكبريت وبعض المعادن الأخرى مما يشير إلى قدرتهم على تحقيق الاكتفاء الذاتي جزئيًا فيما يتعلق بتوفير احتياجاتهم منه محليا أيضًا.
تشير الدراسات الحديثة حول استخدامات الزئبق الفرعونية إلى أنه بالإضافة لدوره الرئيسي في حفظ الجثث خلال عملية التحنيط، فقد لعب دوراً محورياً أيضاََ في صنع الملابس والذهب والمجوهرات المختلفة بما فيها الأقراط والدلايات والإكسسوارات الجلدية المطبوعة بطريقة "التشيب". ويُعتقد كذلك بأن المصنعين القدماء كانوا يستعملونه كتوابل طبيعية لعلاج بعض الأمراض الشائعة تلك الفترة وذلك بسبب خواصه المضادة للجراثيم والفطريات.
وفي الوقت الحالي، رغم عدم توفر بيانات دقيقة حول الكميات المستخرجة سنويا من الزئبق أثناء فترة ازدهاره بين 1550 ق م حتى سقوط الدولة الفرعونية الجديدة عام 664ق.م ، إلا أنها بالتأكيد تعد جزءا من تراث حضاري عميق يعرض جانب مهم جداً وتاريخي لشعب مصر القديمة الغني بثرائه التاريخي والثقافي الكبير .
