تعتبر أفكار العالم والمؤرخ الكبير عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، المعروف بابن خلدون، واحدة من أكثر النظريات الاجتماعية شمولاً وتأثيراً في التاريخ العربي الإسلامي. ولد وابن خلدون عام 732 هـ /1332 م في تونس وبقي اسمه مرتبطا برؤية متعمقة ومتقدمة لطبيعة المجتمع البشري وكيف يمكن أن يتغير ويتطور عبر الزمن. تنطلق نظريته الرئيسية حول دورة العمران والحضر من فكرة أساسية مفادها أن كل مجتمع يمر بمراحل مختلفة تشبه مراحل حياة الإنسان الفردية - الولادة والنماء، ثم الرخاء والاستقرار قبل أن يصل إلى مرحلة الانحلال والاضمحلال.
هذه النظرية التي وضعها ابن خلدون تعتمد على دراسة عميقة لتاريخ العديد من الدول والثقافات المختلفة عبر القرون. ركز اهتماماته بشكل خاص على العلاقة بين القوة السياسية والاقتصاد، موضحًا كيف تؤدي الثروة المتزايدة غالباً إلى زيادة النفوذ السياسي والديني مما يسمح للسلطة بإدامة حكمها لفترة طويلة نسبياً. لكن مع الوقت، تتدهور الأوضاع الاقتصادية وتضعف السلطة المركزية؛ ما يتسبب في النهاية بانحدار حضاري كبير ويفتح المجال أمام ظهور دولة جديدة ومجتمع مستجد يعيد نفس الدورة مرة أخرى.
بالإضافة لذلك، خصص ابن خلدون جزءاً كبيراً من كتاب "مقدمة ابن خلدون" لمناقشة دور الجهل والتقاليد القديمة في تثبيط الابتكار والإصلاح الاجتماعي. كما شدد أيضاً على أهمية التعليم والفكر الحر كمكون أساس لبقاء الأمم وحمايتها ضد التأثر السلبي بالأعراف التقليدية الراسخة.
في جوهره، تقدم لنا نظرية ابن خلدون فهمًا ثاقبًا لكيفية تفاعل العمليات البشرية الداخلية والخارجية لتشكيل مسار الحضارة الإنسانية. وفي هذا الصدد، فهي تعد نموذجًا قويًا للدراسات المستقبلية في علم الاجتماع وعلم الإنسان وغيرهما الكثير.