يعد العالم الإسلامي الكبير ابن النفيس شخصية بارزة ومؤثرة في تاريخ العلوم الطبية بشكل خاص والفكر الإنساني بشكل عام. وُلد محمد بن عبد الله بن أبي عامر البغدادي المعروف بابن النفيس حوالي العام 1213 ميلادي في دمشق بسوريا خلال عصر الدولة الأيوبية. يُعتبر أحد رواد التشريح الحديث وأحد ألمع علماء طب القلب والشرايين الذين ساهموا بشكل كبير في فهم وظيفة الدورة الدموية قبل مئات السنين من اكتشافها رسميًا في أوروبا.
كان لإبن النفيس إسهامات مُذهلة أثرت بصورة كبيرة المجال الطبي، خاصةً فيما يتعلق بفهم كيفية عمل القلب والأوعية الدموية. كتابه "الشامل في الطب" المنشور سنة 647 هجرياً/1249 ميلادياً يعد مرجع أساسي لأجيال عديدة من الأطباء والحكماء المسلمين والعرب. وفي هذا الكتاب الرائد قام بتقديم نظرياته حول دوران الدم عبر جسم الإنسان، موضحا دور الرئتين كمكان لتبادل الغازات بين الهواء الداخل والخارج وبين مجرى الدم.
وقد سبق ابن النفيس ويليام هارفي -الجراح الإنكليزي الشهير- بحوالي ثلاثة قرون بإعلان هذه النظرية التي تعتبر أساس علم تشريح الجهاز الدوري كما نفهمه اليوم. وقد ذكر ذلك ضمن شرح تفصيلي لجهاز الدوران وأنماط تدفق الدم داخل الجسم، بما فيها دور الصمامات الموجودة بالقلب والتي تعمل كبوابات تحول دون رجوع الدم إلى الوراء أثناء انقباض وغلق حجرات القلوب المختلفة.
بالإضافة إلى مساهماته العلمية المتقدمة جدا لعصرها، ترك خلفه تراث معرفي غزير يشمل تأليف العديد من المؤلفات الأخرى مثل "تلخيص الطب"، و"البردة في الطب". وكان أيضًا طبيبًا موهوبًا مارس المهنة بشكل فعال طيلة حياته العملية تحت ظل عدة حكام عرب ومسلمين منهم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب والإشبيلي وابنه الملك الظاهر بيبرس، مما يظهر مدى تقدير المجتمع آنذاك لدوره الحيوي تجاه مجال الصحة العامة.
وفي الختام، فإن تجربة حياة وإنجازات عالم الطب والتاريخ الإسلامي ابن النفيس تتوجّه جميعها برؤية ثاقبة ورؤية مستقبل لما يعنيه البحث الأكاديمي والابتكار الفكري الحقيقيان بالنسبة للعصور الحديثة. إن إرثه المستمر يبقى مصدر إلهام للباحثين والمبتكرين المعاصرين، حيث أنه يؤكد قدرة البشرية على تحقيق تقدم هائل حتى وسط ظروف اجتماعية معقدة واستقرار سياسي محدود. ولا يمكن التقليل من شأن دوره المحوري كرائد مبتكر وتجديدي لنظرية لم يكن لها وجود سابقاً لفترة طويلة بعد وفاته وذلك ليس فقط بسبب وقت عرضه لهذه الأفكار بل أيضا لقدرتها الاستمرار والبقاء رغم تحديات الزمان والمعارف الجديدة التي جاءت لاحقا.