يمثل معجم "لسان العرب" منارةً هائلةً في عالم اللغة العربية، وهو عمل ضخم استحق بجدارة وصفه بأنه الأوسع نطاقاً والأكثر شمولاً بين جميع معاجم اللغة. يأتي هذا العمل الرائد من القلم الرزين للإمام العلامة المتألق، ابن منظور. الاسم الحقيقي لهذا الشخصية البارزة في التاريخ الثقافي للعالم العربي هو محمد بن جلال الدين بن مكرم بن نجيب الدين الرويفعي الأنصاري. ولد ابن منظور حوالي العام 630 هجري، ومع ذلك يوجد اختلاف تاريخي بشأن موضع ميلاده الدقيق، إذ يشير البعض إلى أنه قد رأى النور في القاهرة بينما يقترح آخرون طرابلس كنقطة بداية حياته الأولى. لكن الأكثر قبولاً يبقى بأن جذوره تعود إلى مصر.
على مدى مسيرة طويلة مليئة بالإنجازات الأكاديمية الملحوظة، اكتسب ابن منظور احتراماً واسعاً ليس فقط بسبب براعتِه الأدبية وإنما كذلك لتعدد مواهبه. إضافة لما يتمتع به من قدرة فريدة على التأليف والإتقان المكتوب له، فقد برع أيضا في فن الشعراء؛ حيث تتسم قصائده بالسلاسة والفصاحة والتعبير الرفيع عن الحكم والحكمة. وقد مدحه صفدي قائلاً: "شعرٌ يغوص الغائصُ فيه ويعجب القلب منه". بالإضافة لذلك، قضى فترة مهمة من مشواره المهني كقاضي في مدينة طرابلس اللبنانية. وعلى الرغم مما حققه من نجاحات ساحقة خلال تلك الفترة إلا أنه فضّل العودة لوطنه الأم ليودع الحياة بعد سنوات عديدة تجاوزت ثمانينيته في العقود المبكرة من القرن الرابع عشر الميلادي حسب بعض الوثائق التاريخية. وبحسب ما ورد فإن الشيخ المنظور تعرض لحالة ضعف بصري ملحوظ قبيل مماته مباشرة.
إن بناء ترتيب متناسق ومتكامل لمعجمه الرائد - المعروف باسم "لسان العرب"- تم عبر إعادة استخدام المواد المستندة إلى أعمال سبقت عصره مثل "تهذيب اللغة" لأبي منصور الأزهر، و"المحكم" لديه أيضًا نسخة محدثة خاصة به تُعرف بـ "المحيط الكبير"، وكذا كتاب تاج اللغة الصحاح لجوهري، وملحقات ابن بري حول ألفاظ الأخير، وغيرها الكثير بما في ذلك "النهاية" لإبراهيم عز الدين الآثوري والتي تعتبر إحدى أشهر مراجع معاني الحديث الإسلامي والشرح الخاص بها للحكمة الطلائية القديمة والمعاصرة بمختلف أنواعها وأشكالها المختلفة.
وفي معرض تقديمه لهذه الموسوعة الضخمة، اعترف المؤلف الواضح أمام الجمهور العالمي باتباع نهج الاستئناس والاستلهام عوضاً عن تقديم مطالبات شخصية باكتساب خبرة ذاتية أو معرفة مستمدة مباشراً ممن ذهبوا قبله ضمن منظومة المشتغلين بهذا الفن تحديداً -الأزهري وسيد-. وكان ادعى علنية بأنه مجرد مُعين ومروِّج وليس منتج جديد بطابع مبتكر تمام التركيب منذ بدء الخليقة حسب اعتراف أخلاقي صادق وجليل.